أي فريق شاء.. فهو الذي يختار ـ بعد هذا
البيان ـ الاستكبار والعناد، فيكون
كافراً.. فيواجه مصير الكافرين.. أو يختار
الإيمان، فيكون من ومع المؤمنين..
ثم يعرض عن الخطاب مع هؤلاء لكي تستمر
الآيات في بيان أحوال أهل الإيمان، لأنهم
هم الذي يجسدون الإنسانية الحقيقية..
مقدماً لهم المثل والنموذج الأعلى
للإنسانية, وهم أهل البيت [عليهم السلام]،
ليكونوا لهم الأسوة والقدوة والمثال..
فيرغب الإنسان العاقل بالتأسي بهم.والسير على نهجهم..
وهذا ما سيتضح في تفسير الآيات التالية..
الفصل الثالث :
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)
قال تعالى:(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
«إنَّا»
ويرد هنا سؤال، وهو:لماذا قال تعالى: (إنَّا هَدَيْنَاهُ) ولم
يقل: «فهديناه». أو «ثم هديناه»..وقد يقال في الجواب:إن سبب ذلك هو أن السميعية والبصيرية
تعبير عن درجة عالية من الإدراك، يستطيع
الإنسان من خلالها أن يبصر المعجزات،
ويتفاعل معها، ويبصر ويسمع كل ما من شأنه
أن يفتح باب هداية، سواء كان ذلك بالتعليم
له، أم بالتدبر والتفكر في خلق الله، وربط
المقدمات بالنتائج، والوسائل بالغايات
والأهداف.وذلك معناه: أن الهداية المذكورة هنا هي
نتيجة تلك السميعية والبصيرية، التي نشأت
عن الابتلاء، المستند إلى الأمشاجية في
النطفة. فالمراد هنا كل ما يوجب الهداية،
من شرع وعقل، وتفكر، وتدبر وما إلى ذلك،
ولا ينحصر الأمر بالهداية التشريعية..لكن قد يقال: إن ثمة فهماً آخر للآيات، وهو
أنه تعالى قد ابتدأ كلامه بصورة الاستئناف
في قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)
موازياً لقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا
الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيه).. فلعله لكي يشير إلى أن
الهداية للإنسان قد بدأت مذ خلقه الله
نطفة، حيث صاحب هذا الخلق له إعطاءه
الحالات والميزات التي بدأ من خلالها
مسيرته التكاملية، فهو خلق لوحظ فيه مضمون
المخلوق، وحالاته، وأشكاله، وتفاصيله..وروعيت أيضاً في كيفية خلقه، وأوضاعه،
وكونه أمشاجاً، أن يكون أهلاً للابتلاء،
ثم انتقل إلى الابتلاء الذي من شأنه أن
ينقله إلى مراتب أعلى.. فأوصله ذلك إلى
درجة السميعية والبصيرية..
فالهدايات إذن قد بدأت منذ نشأة الإنسان،
فكانت له الهداية التكوينية، ثم
الإلهامية، ثم الحسية، ثم الفطرية، ثم
الغريزية، ثم العقلية، ثم التشريعية،
وهذا معناه أنه لو قال: فهديناه السبيل،
لكان المراد بالهداية هنا هي الهداية
التشريعية، لكنه لما قال: (إنَّا
هَدَيْنَاهُ).. عرف أن المراد: أن هدايته قد
صاحبته منذ بداية خلقه..
غير أن التأمل الدقيق في هذين الفهمين
لمسار الكلام في الآيات يعطي: أن كلاً من
هذين السياقين متمم للآخر، وليس مختلفاً
معه. فإن وجود الهدايات للإنسان منذ بدء
تكوينه، لا يأبى عن كونه لا يزال محتاجاً
إليها أيضاً حتى بعد حصوله على السميعية
والبصيرية، وذلك ظاهر لا يخفى..
«هَدَيْنَاهُ»
والهدايات التي أشرنا إليها آنفاً، هيالتالية:1ـ الهداية التكوينية، ونشوئ الإنسان وفق
السنن، ولا يتعلق غرضنا بالحديث عنها..2ـ الهداية الإلهامية، ومصدرها الله
سبحانه.. من قبيل هداية الجنين إلى مص
إصبعه، وهو في الرحم، ثم اندفاعه بعد
ولادته لالتقام ثدي أمه.3ـ الهداية الفطرية ـ وتدخل فيها
الغرائزية.. وهي تنبع من داخل الإنسان، من
قبيل ميل الإنسان إلى العدل، والكمال،
والعلم، والفقه، وحب الذات وغير ذلك من
ميول طبيعية جِبِلِّية، نابعة من صميم
الذات الإنسانية، بلا حوافز من خارج ذاته..4ـ هداية الحواس الظاهرة، فالسمع يهدي إلى
الأصوات الرخيمة، والمنكرة. والبصر يهدي
إلى الأشكال، والأجسام، والألوان.
والذائقة تهدي إلى أصناف الطعوم،
كالحلاوة، والمرارة، والملوحة، ونحو ذلك.والشامّة تهدي إلى الروائح الكريهة
والطيبة. واللامسة تهدي إلى الخشونة
والنعومة، والصلابة، والليونة، والحرارة
والبرودة إلخ..5ـ هداية الحواس الباطنة، لمعان قائمة
بالنفس، كالإحساس الوجداني بالخوف،
والحزن، والفرح، والأمن، وما إلى ذلك.