الأوهام القاصرة. بتوقع أن يقول: إما
ضالاً، أو مهتدياً، لأن جعل الإنسان يتلمس
السبيل بهذا المستوى من الوضوح، والتعيُّن
والتبيُّن، لا يبقي مجالاً للضلالة عنه،
أو تضييعه، أو ادعاء الغفلة عن خصوصياته
وحالاته، فهو مهتد إليه بصورة حتمية، فإذا
حاد عنه، فإنما هو عناد، وكفر، واستكبار،
وجحود.فنسبة الوضوح في سبيل الهداية، هو في
مستوى نسبة الوضوح في سبيل الضلالة. قال
تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن)[122].فإذا كان قد هداه النجدين، فكيف يمكن تصور
ضلاله، إلا على سبيل العناد والجحود؟
وقد
قال تعالى: (لِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبَالِغَةُ)[123].وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)[124].وبذلك يتضح: أن «أل» في كلمة «السَّبِيل»
جنسية، أي أنه تعالى قد بيِّن سبيل الغي
والضلال، الذي لا يوصل، بواسطة بيانه
للسبيل المستقيم الموصل، فأصبحت السبل
واضحة، وعليه هو أن يختار.لماذا بدون فاء التفريع؟:
ويبقى سؤال: لماذا لم يقل الله تعالى:
«فإما شاكراً». مع فاء التفريع، بل قال:
(إِمَّا شَاكِرَاً)؟!..ونقول: لعل السبب في ذلك: أنه تعالى يريد
أن يبرز عنصر القصد والاختيار والإرادة،
فكأنه قال: قد دللتك، ولك الخيار، في أن
تفعل، وأن لا تفعل، فأنت الذي تقرر
وتختار، وتبادر.
ولو أنه جاء بفاء التفريع فلربما يُتخيل
أن الشكر والكفر يأتي كنتيجة طبيعية
وحتمية الحصول، سواء أكان ذلك بسبب الغفلة
عن الأمر، فينساق بعفوية إليه وبدون
التفات، أم بسبب النسيان بعد الالتفات، أم
بسبب العمد إلى الشكر والكفر، ثم يتكرر منه
فعل الكفر، حتى يصير كفوراً..
السميعية والبصيرية لا تغني عن الهداية
وقد يقال: إذا كان الله قد جعل الإنسانسميعاً بصيراً، فإنه لا يحتاج بعد إلى
الهداية، وذلك لأن سميعيته الفائقة، وكذا
بصيريته سوف تجعلانه يلتفت لكل شيء، ويدرك
كل ما حوله.. فلماذا عاد فقال:
(إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً)؟!
ويجاب عن ذلك:
أولاً
إن سميعية وبصيرية الإنسان لا تعنيإحاطته بالأمور، ومعرفتهُ بأسرار الخلق،
ولا وقوفه على الغيوب، ولا على واقع
تأثيرات الأشياء بعضها ببعض، ولا على
المصالح والمفاسد الواقعية..
فيحتاج إلى الهداية التشريعية الإلهية،
ليضمن عدم الوقوع في الخطأ الكبير
والمهلك.. لأن غاية ما يحصل عليه الإنسان
هو هداية التكوين، والفطرة، والعقل.وهداية التكوين محكومة بعللها وأسبابها..
وهداية الفطرة محدودة في نطاق الدعوة إلى
عناوين ومبادىء، وأهداف عامة وعالية،
تكتنفها دواعٍ غريزية، تحتاج إلى ما يضبط
حركتها في مسارها إلى تلك الأهداف
والمبادىء، حتى لا تتجاوز الخط أو الهدف
الذي حددته الفطرة لها.وهداية العقل تبقى أيضاً مفتقرة إلى
توفير المخزون الذي يستطيع العقل من خلاله
أن يعطي حكمه الإرشادي من خلال التصرف فيه..
ويبقى الإنسان بعد هذا وذاك في موقع
المحتاج إلى الدلالة والهداية الإلهية..
فبعث الله له الأنبياء مبشرين ومنذرين..وعرّفوه السبيل: (إِمَّا شَاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً)..ويكون هذا المستوى من السميعية والبصيرية
بمثابة التأهيل لتلقي الهداية الإلهية.. ثم
التفاعل معها من موقع المختار المريد.. لا
من موقع الجبر التكويني، والتحريك
القسري، كما هو الحال بالنسبة لبعض
الكائنات، كالنباتات، ولا من موقع التحرك
التكويني، والفطري، والغريزي، وحسب، كما
هو الحال بالنسبة للحيوانات..
وَإِمَّا كَفُوراً
ولا بد أن يلتفت قارىء هذه الآية إلى أنالله سبحانه بالنسبة للشكر قد عبَّر بصيغة
اسم الفاعل.. لكنّه بالنسبة لغير الشاكر
جاء بصيغة المبالغة فقال: (إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).. أي كثير
الكفر وشديده..وهذا التعبير هو الصحيح والأولى، لأن
الإنسان شديد الكفر، من حيث إن الحقائق
التي يحاول طمسها وتجاهلها, هي من الظهور
والوضوح إلى الحد الذي تحتاج إلى جهد كبير
وشدّة، ليتمكن من طمسها وحجبها. وهو أيضاً
كثير الكفر, وذلك لكثرة الحقائق التي يعمل
على إبعادها, وإسدال الحجاب عليها. سواء
أكانت هذه الحقائق مما تدعوه إليها فطرته,
أم مما يرشده إليها عقله, أم مما أوضحها له
التشريع والبيان الإلهي..