من كتاب (الطواسين) للحسين بن منصور الحلاّج (000 ـ 309هـ) يقول الحلاج (سراجٌ من نورِ الغيبِ بدا وعاد، وجاوزَ السُّرج، وساد. قمرٌ تَجلّى من بين الأقمار، كوكبٌ برجُه في فلكِ الأسرار. سمّاه الحقُّ أميَّاً لجمع أمّته، و حرميّاً لعظم نعمته، و مكيّاً لتمكينه عند قربته.
شرح صدره، ورفع قدرَه، وأوجب أمرَه، وأظهرَ بدرَه. طلعَ بدرُه من غمامةِ اليمامة، وأشرقَت شمسُه من ناحية تُهامة، وأضاءَ سراجُه من معدن الكرامة.
ما أخبرَ إلا عن بصيرته، وما أمرَ بسُنّتِهِ إلا عن حُسن سيرتِه، حضَرَ فأحضَرَ، وأبصرَ فأَخبر، وأنذَر فحذّر.
ما أبصره أحدٌ على التحقيق، سوى الصَّديق، لأنّه وافقه، ثم رافقه لِئلا يبقى بينهما فريق.
ما عرفَهُ عارفٌ إلا جهل وصفه: ا*الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون* .
أنوار النبوة من نوره برزت، وأنواره من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم في القدم، سوى نور صاحب الحرم.
همّتُهُ سبقت الهِمم، ووجودُه سبق العَدم، واسمه سبق القلم: لأنّه كان قبل الأمُم والشيم، ما كان في الآفاق، وراء الآفاق، ودون الآفاق، أظرف، وأشرف، وأعرف، وأنصف، وأرأف، وأخوف، وأعطف، من صاحب هذه القصّة، وهو سيّد أهل البرية، الذي اسمه أحمد، ونعتُه أوحد، وأمرُه أوكد، وذاتُه أجود، وصفاته أمجد، وهمّتُه أفرد.
يا عجباً ما أظهره، وأبصره، وأطهره، وأكبره، وأشهره، وأنوره، وأقدره، وأصبره، لم يزل كان مشهوراً قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل كان مذكوراً قبل القَبْلِ، وبعد البعد، والجوهر والألوان، جوهره صفوي، كلامه نبوي، علمه علوي، عبارته عربي، قبلته لا مشرقي ولا مغربي، حسبه أبوي، رفيقه ربوي، صاحبه أموي.
بإرشاده أبصرت العيون، وبه عرفت السرائر والضمائر.
والحق أنطقه، والدليل أصدقه، والحق أطلقه، هو الدليل، وهو المدلول، هو الذي جلا الصدأ عن الصدر المعلول، هو الذي أتى بكلام قديم، لا مُحدثٍ، ولا مَقُول، ولا مفعول، بالحق موصولُ غير مفصول، الخارج عن المعقول، هو الذي أخبر عن النهاية والنهايات، ونهاية النهاية.
رفع الغمام، وأشار إلى البيت الحرام، هو التمام، هو الهمام، هو الذي أمر بكسر الأصنام، هو الذي كشف الغمام، هو الذي أُرسل إلى الأنام، هو الذي ميّز بين الإكرام والإحرام.
فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت وأشرقت، وأمطرت وأثمرت، العلوم كلُّها قطرة من بحره، الحكم كلّها غرفة من نهره، الأزمان كلُّها ساعة من دهره الحقُّ به، وبه الحقيقة، والصّدق به والرِفق به، والفتق به، والرتق به، هو الأول في الوصلة، و الآخر في النبوة، و الظاهر بالمعرفة، و الباطن بالحقيقة.
ما وصل إلى علمه عالمٌ، ولا أطلّعَ على فهمه حاكم.
الحقُّ ما أسْلَمَهُ إلى خلقه لأنّه هو، وإنّي هُوَ، وهُو هو.
ما خرجَ خارجٌ عن ميم محمد، وما دخل في حائه أحدٌ، وميمٌ ثانية، والدال وميم أول، داله دواؤه، ميمه محلّهُ، حاؤه حاله، ميم ثانية مقاله.
أظهر إعلانه، أبرز برهانه، أنزل فرقانه، أنطق لسانه، أشرق جنانه، أعجز أقرانه، أثبت بنيانه، رفع شانه.
إن هربت من ميادينه فأين السبيل بلا دليل، يا أيُّها العليل، وحكم الحكماء عند حكمته ككثيبٍ مهيل!) كانت حياة الحلاج ريادةً، من رفضه التقليد، إلى قوله بالأصل الإلهي للإنسان، ووحدة الأديان، والتبشير بالإسلام، إلى دوره الإصلاحي، والثوري في الحياة السياسية، ودفاعه عن الفقراء، والمظلومين، وتحريضهم على الثورة ضد السلطة، إلى اتهامه بالجنون، والسحر، والكفر، إلى سجنه، وطلبه للموت في كلماته وأشعاره :
إلى قتله، وصلبه، وقطع رأسه، وإحراق جثته، ورمي رمادها في نهر دجلة. تلك لم تكن حياة، كانت أسطورةً، وكانت ريادة، وإذا كانت مواقف الحلاّج، وكلماته، وأشعاره ريادةً، فلماذا يُلّحُ بعضهم على حرمانِ نثره ـ خاصةً الطواسين ـ من الريادة، والحكم عليها بأنّها (لا ترقى إلى مصّاف النصوص الأدبية التي شهدها العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، إذ قلّما يحرسُها من الهبوط إلى هلهلة السجع غير الغموض، قيمة هذه النصوص لا تأتي من ذاتها بالدرجة الأولى، بل من اجتماعها بصاحبها) .
إذا كان الحلاّج قد سعى إلى التّفرد في حياته عبر طَرْقِه أبواب الخطر، وطلب الموت، أفلا يسعى إلى التفّرد في ابتكار نصوص فنية جديدة، قد يكون دافعه إلى ابتكارها فضْلاً عن رغبة التفرد ـ الاحتيال على أشكال التعبير لترجمة أفكار جريئة، فتفرد بالإغراب والغموض، إلى درجة بدت عندها طواسينه (طلسمات عجيبة) ، كما وصفها بعضهم، لكنّ الحلاّج دافع عنها، فأكَّد أنّ غموضها مقصودٌ، وأنّ فهمها لا يتسنّى لأيّ كان (ما أظنُّ يفهمُ كلامنا سوى من بلغ القوس الثاني، والقوس الثاني دون اللوح، وله حروف سوى حروف العربية إلاَّ حرف واحد وهو الميم) .
صحيحٌ أنّ سمة الغموض والرمز تسيطر على الطواسين وتُنمي فهمها إلى حيّز التخمين، وتغليب الظن، ولا يبعد أن يكون التحريم السياسي والمعرفة دافعه إلى ذلك، فهي تتمحور حول فكرة رئيسة هي نظرية (الحقيقة المحمدية)، وأفكار صوفية أخرى يُعبّر عنها الحلاّج، ويكنز فيها فيضاً من عواطفه، أمّا تسميتها بـ (الطواسين)، فهو جمعٌ لمفردة (طاسين) التي تبدأ بها سورة (النمل) في القرآن الكريم، أمّا تحليل ماسينيون لهذا العنوان فهو أنّ ((ط)، و(و)، و(س)، و(ن)، هي حروف في أوائل السور. (ط) هو طهارة المبدأ الأول والمُطلق في الأزل، و(س) من السناء؛ فهو التجلّي النهائي المطلق، و(ن) المنحة التي يمنحُها الحق الإلهي للنفوس) لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الطواسين نصوص نثرية مسجوعة، فيها ألوان بيانية وبديعية، وأساليب أدبية متنوعة وُظِّفَتْ لغايةٍ فنية بعد التعبير عن عاطفةٍ دينية، وأنّ اختيار النثر، وتأثرَه بأسلوب القرآن الكريم لم يكن عبثاً، لأنّ النثر لغة الكتب السماوية، وعلى الرغم من اختياره النثر، فإنَّ أبرز الجوانب التي نالت اهتمامه هو (الإيقاع والموسيقى) من حيث تقسيم النص إلى فقرات، متناسبة وتقسيم الفقرة إلى تراكيب متعادلة، ما يدفع إلى القول بأنّ الشعر توفر في هذا النثر، وكان هذا أبرز تجليات تطور النثر، ومواكبته توسع جوانب الفكر، وكأنّ الحلاّج أرادَ أن يُلْحِقَ هذا النثر بالشعر (رفع الغمام، وأشار إلى البيت الحرام، هو التمام، هو الهمام)، ما يُذكِّرُ بالمدائح النبوية، فهو إنْ اختلف عنها كمّاً وشكلاً، لا يختلفُ جوهراً وجمالاً، فالنص يميل ميلاً شديداً نحو الأدب، على الرغم من خطورة الموضوع الصوفي، والفكرة المذهبية فيه، قارب الشعر بوساطة السجع، والتوازن، والازدواج، والإيقاع، والإيجاز، والتكثيف، والسلاسة، والغموض، وأهم من ذلك العاطفة التي يوقظها في النفس، يتحدث الدكتور مصطفى ناصف عن نشاط الروح المتمّثل في عباراته (همتّه سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم) فهذه عبارات (تؤخذ مأخذ التأمل الوجداني، إنّها عبارات مُكثّفة لكنّها بعيدة عن التلخيص والتقرير) .
ليس غريباً أن يشقَّ إبداعُ الحلاّج طرقاً فنية فردية، مثلما شقّ طُرقاً فكرية ذاتية، فالطواسين نوع أدبي ابتكره الحلاّج، ونبّه الدكتور مصطفى ناصف على ضرورة الاهتمام به (إنّ دارسي اللغة في أشدّ الحاجة إلى العناية بهذه الكتابات، فهي غنية بنوعٍ ثانٍ من الإيقاع، وغنية بالقوة الطاردة التي تقابل قوة الجذب، لدينا كتابات لم تكتشف بعد تتجاوز بساطة التفكير والعواطف) .
إنّ فكرةً محورية ـ هي احتياج الأمة الإسلامية للنبي محمد * ـ مبثوثة في النص، ومن أجلها أُنْشِئَت كل المظاهر اللغوية، وأبرز هذه المظاهر ما يلي:
1 ـ تضمين معنى التعليل في بعض الصيغ (سمّاه الحقُّ (أميّاً) لجمعِ أمته، و(حرميّاً) لعظمِ نعمته، و(مكيّاُ) لتمكينه عند قربته).
2 ـ الإكثار من استخدام الفعل لإبراز أهمية الرسالة المحمدية التي قام النبي بنشرها علماً وحكمةً ومُثلاً، (بدا، وعاد وساد وتجلى) خاصة الأفعال الماضية للدلالة على قِدَم النور المحمدي.
3 ـ إثبات الإيجاب عن طريق نفي السلب (ما أخبر إلاّ عن بصريته، وما أمرَ إلاّ عن حسنِ سيرته...) (ليس في الأنوار أنور، وأظهر، وأقدم في القدم سوى نور صاحب الكرم) (ما كان في الآفاق، ووراء الآفاق، ودون الآفاق، أظرف، وأشرف، وأعرف...) (وما وصل إلى علمه عالم)... الخ، وفي هذا النفي إيماءٌ إلى التوحيد النبوي لـ محمد *، ومعرفة حقيقته؛ فهو الأول من حيث قربه من الله، واتصاله به، وهو الآخر من حيث مكانته في النبوة، ومن ثم يَنْظُر إلى محمد * نظرةً باطنية ترى فيه نوراً، وظهوراً، وبصيرةً، وطُهراً، وكِبراً، وشُهرةً، وشرفاً، وظُرفاً ومعرفةً، وعدلاً، ورأفةً، ومخافة، وعطفاً.
4 ـ التعجب والنسبة بإيجاز لغوي مُحكم لإبراز جمال النبي وكماله، وتأكيد انتسابه المميّز. (يا عجباً ما أظهره، وأبصره، وأطهره، وأكبره، وأشهره)، و(جوهره صفوي، وكلامه نبوي، علمه علوي، عبارته عربي، قِبلتُه لا مشرقي ولا مغربي... الخ).
في طاسين السراج، يقول الحلاّج بِقدَم النور المحمدي، وبكونه أول خلق الله، وللنبي محمد * حقيقتان: حقيقة قديمة هي النور الأزلي قبل الأكوان، وحقيقة حادثة هي النبي محمد * المُرسَل في زمانٍ ومكانٍ محدّدين، وعنه صدرت أنوار الأنبياء والأولياء اللاحقين، وممّا ينفي عن النص سمة الطلسمة، وانعدام القصد الأدبي والفني بمغزاه الاجتماعي والمعرفي، ترتيب أفكاره ترتيباً منطقياً بدءاً من ذكر نور محمد *، وتعليل تسميات الحق لـه، ثم ذكر الفضائل التي وُهبت للنبي محمد *، وأبرزُها نشر سُنّةِ الله، ثم الحديث عن قِدم النور المحمدي، وكون النبي هو الأول في القُرب من الله، وإن كان الآخر في النبوة، إلى ذكر مآثر النبي ومعجزاته (النطق بلسان الحق (القرآن))، و(رفع الغمام)، و(الإشارة إلى البيت الحرام)، و(كسر الأصنام)، و(هداية الأنام)، دون أن ينسى الحلاّج التعبير عن حبّه للنبي، وإعجابه بكماله، إشارةً إلى نظرية (الإنسان الكامل)، وهي الوجه الآخر للحقيقة المحمدية التي اختزلها الحلاّج هنا بـ (النور).
ينتشر النور الديني والروحي ليواجه الظلام والظلم في شؤون السياسة، وهذا النور هو حلم كبير بالعودة، (نورٌ بدا وعاد)، حلم يتبنّاه الخيالُ الصوفي معرفيّاً، وفنيّاً، فالخيال انعتاق، وحرية، وانتقال من الآني الزائل إلى الأبدي الخالد، يُحقّقُ لقاء الإنسان بنبيّهِ، ليكون اللقاءُ ملجأً وغيباً مُترامياً في الخلود، فليست حاجةُ المسلمين في زمن الحلاّج إلى الهداية بأقلّ منها في عهد الجاهلية، هذا هو رأي الحلاّج عبَّر عنه في صياغةِ معجزةٍ نورانية محمدية، في مضمونها وشكلِها معاً، إذ إنّ النص من قبيل النبوءة، والحدس، والأمنية معاً، حلم المسلمين بالإسلام يولد من جديد صافياً نقيَّاً مثالياً، في شخص النبي الكامل (الحق أنطقه، والدليل أصدقه، والحقّ أطلقه، هو الدليل، وهو المدلول، هو الذي جلا الصدأ عن الصدر المعلول، هو الذي أتى بكلامٍ قديمٍ لا مُحْدَث ولا مقول، ولا مفعول، بالحق موصول غير مفصول،...).
ولأنَّ طاسين السراج هو نظرية الحلاّج في النور المحمّدي، فالهدف التصويري ليس بين أهداف الحلاّج، فالنبي لا يُصوَّر، لأنّه نور، فلا تشبيه، ولا كناية، ولا استعارة، سوى صورة ذهنية وحيدة، صورة سراج كبير، منير، في أقرب نقطة من اللوحة إلى عين الناظر، والأشعة تغزو أبعاد اللوحة كلها، ومن خلفه سرج أخرى مضيئة، ومن فوقِ السراج الكبير غمامة يرفعها ضوء السراج، أمّا اللوحة فمتحركة من داخلها، لأنّ السراج يتحولُ قمراً، ثم كوكباً في فَلَك، في حركة لا تنتهي، وليس ثمة ألوان في اللوحة إلاَّ لون واحد طاغٍ هو لون النور (في الآفاق، ووراء الآفاق، ودون الآفاق) هي لوحة مرسومة بالكلمات، وهناك كلمة مركزية هي (النور) تتكرر صريحةً عشر مرات، بين نور، ونوره، وأنواره، وأنور، ثم تأتي الكلمات المرادفة للنور، والتنوير، وهي (أضاء)، و(برقت)، و(لمعت)، و(أشرقت)، ثم الكلمات التي هي آلات تنوير، أو مصدر نور وإشراق، (السراج)، و(قمر)، و(سُرج)، و(أقمار)، و(كوكب)، و(بدر)، و(شمس). إنّه حشدٌ من ألفاظ تخدم فكرة (النور)، يشير الدكتور ناصف إلى هذه المركزية بقوله: (كلمة النور حمّالة أوجه، وقيمتها تنبع من قدرتها على الحركة) .
واهتمام الحلاّج بكلمة النور يدلنا على أحد المنابع الهامة لفكر الحلاّج وهو (الإشراق) لقد تحوّل النور إلى رمز كبير، فهو رمز إلى نور النبي *، ورمز للمعرفة والخلاص ورمزٌ للحقيقة المحمدية القديمة التي سبق نور سراجها نور بقية السُرج (الأنبياء) ومن الكلمات المركزية المتحولة ـ أيضاً ـ كلمة (المعرفة)، حيث يشتق منها (عرف)، و(عارف)، و(أعرف)، وكذلك كلمة (العلم)، ويشتق منها (العلوم) و(علمه) و(عالم)، أمّا المفردات، والجمل التي تنطوي تحت العلم والمعرفة، فهي (أخبر عن بصيرته)، و(ما كان في الآفاق، ووراء الآفاق، ودون الآفاق أعرف...)، و(بإرشاده أبصرت العيون)، و(العلوم كلها قطرة من بحره، والحكم كُلّها غَرْفة من نهره، وما وصل إلى علمه عالم، ولا اطلّع على فهمه حاكم).
وتتبادل الكلمات المركزية أدوارها، فالنور هو المعرفة والعلم، والمعرفة هي النور والعلم، والعلم هو النور والمعرفة، وكون هذا التبادل عفويّاً، أو كامناً في طبيعة التجربة والمصطلح الصوفيين، لا ينفي ولع الحلاّج بالترادف لسببين:
1 ـ الحلاّج حلولي، يقول بحلول الذات الإلهية في الإنسان، والترادف اللغوي شكل من أشكال الحلول، إذ يحلُّ معنى الكلمة في مرادفتها، وتمتزجان (قمر وكوكب وبدر)، (السرائر والضمائر)، (رفع الغمام وكشف الغمام).
2 ـ كون الترادف موطناً جمالياً وفنيّاً (العلوم قطرة من بحره، والحِكَمْ غَرْفة من نهره)، و(ما وصل إلى علمه، ولا اطلّع على فهمه حاكم).
الجناس ـ أيضاً ـ ظاهرة بديعية، وهي في خدمة فكرة (الحلول)، فالتجانس بين (سراج وسرج)، وبين (نور وأنوار)، وبين (قمر وأقمار) يعني أنّ السراج (النبيُّ محمد *)، وبقيةّ السُرج من الأنبياء هم ذات واحدة، وأنّ الواحد منها هو تجلٍّ للآخر.
والطباق ـ أيضاً ـ يشي بمعنى من معاني الحلول مثل (وجودُه سبق العدم)، و(الفتق به والرتق به)، و(الأول والآخر)، فقد تعني هذه المتطابقات حلول المعنى في نقيضه.
استخدم الحلاّج أسلوبي الخبر، والإنشاء، لكنّ أسلوب الخبر هو الذي طغى؛ ذلك لأنّ الحلاّج يؤلف ما يشبه التأريخ، أو هو يؤرّخُ فنيّاً، ووجدانيّاً، وأدبيّاً لظهور النبي * ومكانته، فالحلاّج لا يبتدع معنويّاً، إنّه يتحدث عن حقائق دينية وتاريخية، أهمها قرب النبي * من الله، فهو الأول، أمّا من حيث مكانته في النبوة، فهو الآخر، وما يضيفه الحلاّج ـ فضلاً عن إبداعه الأسلوبي ـ هو وصفُ وجدانه الذاتي تجاه هذه الحقائق.
الحديث عن النبي *، ووصفه، كله إخبارُ بأفعال ماضية حدثت، أو بنفي أفعال ماضية أخرى لم تحدث، ففي بداية النص وصفٌ لمحمد (سراجٌ بدا وعاد، وجاوز السرج وساد، وتجلّى، سمّاه الحقُّ أميّاً لجمع أمته، وحرميّاً لعظم نعمته، ومكيّاً لتمكينه عن قربته)، وبأسلوب الخبر أيضاً، بيّن الحلاّج مكانة النبي عند الله، من خلال تعداد الفضائل التي منحها الله سبحانه النبيَّ *: (شرح صدره، ورفع قدره، وأوجبَ أمره، وأظهر بدره)، و(ما أخبرَ إلاَّ عن بصيرته)، و(ما أبصره أحدٌ على التحقيق سوى الصدّيق).
أمّا نفي الأفعال التي لم تحدث، فعملٌ يُتمَمُ المعاني المتعلقة بالخبر الرئيس عن النبي محمد *، ففي أسلوب النفي الوارد في (ما أخبرَ إلاَّ عن بصيرته، وما أمرَ بسُنّتهِ إلاَّ عن حُسنِ سيرته، وما أبصر أحدٌ على التحقيق، سوى الصدّيق، لأنّه وافقه...) يُخبر عن رسالة النبي، ومضمونها نشر سُنّة الله بين خلقه، وأنّه ما رأى أحدٌ من الناس النبي ببصيرته، وصدقّه، وآمن برسالته بادئ ذي بدء إلاَّ الصدّيق أبا بكر، كما ينفي في مقطعٍ لاحق وجود أظرف، وأشرف، وأنصف، وأرأف، وأخوف، وأعطف، من أحمد سيد أهل البريّة.
وتجاور النفي والإثبات في النص ليس تجاور نقيضين؛ لأنّ وظيفة النفي في النص هي الإثبات، ينفي أفعالاً لِيُثبَتِ نقيضَها، فما لم يُحدّده بالإثبات يُحددّه بالنفي.
أسلوب الإنشاء الذي يكاد يكون يتيماً في النص، هو أسلوب التعجّب (يا عجباً ما أظهره وأبصره...)، ففيه تعجّب الحلاّج من ظهور النبي، وإبصاره، وطُهره، وكبره، وشهرته، ونوره، وقدرته، وصبره، بأداة تعجب واحدة لم يكرّرها؛ لأنّ النبي * كاملٌ، فهو بصيرٌ، في آنٍ معاً، كلّ لحظة منذ الأزل، وإلى الأبد، هو مجمع هذه الصفات (لم يزل كان مشهوراً قبل الحوادث، والكوائن، والأكوان، ولم يزل كان مذكوراً قبل القبل، وبعد البعد، والجوهر والألوان). فطاسين السراج، هو طاسين الإنسان الكامل ، حتى إنّ النص يُذكِّرُ بالمدائح النبوية، لكنّ الحقيقة التاريخية، والدينية، والمعرفية المُتضَّمنة فيه لا تريد أن تتقيد بالوزن، والقافية، وبعددٍ من الأبيات لـه بداية ونهاية، فالنص أكثر حريةً وامتداداً في الماضي والمستقبل، ليس هناك بيت أخير في النص النثري مثلما القصيدة، هناك مدى مفتوح لكتابةٍ مستمرة بفضل الحرية التي يتمتع بها النثر.
صحيحٌ أنّ مثل هذه الكتابات ليست وليدة لخبرة فنية أدبية جمعية، أو تجسيداً لنوع أدبي، لكنّها وليدةُ وحيٍ وجداني صوفي؛ كتابة تلقائية نفسيّةً تُشبه الكتابة الآلية، أو السريالية، ولعلّ هذا يُفسّرُ وصفَ الدكتورة سعاد الحكيم لنص السراج بأنّه (نصٌ تقريري وصفي، شهادةٌ عن شهود) ، وتعليلها ذلك بـ موت النص الصوفي بعد وصول صاحبه، فقبل الوصول يسلك الصوفي طريق الحرمان، والمهالك، والمقامات، والأحوال، والمنازل تقول الدكتورة الحكيم (لكأنّ الطاقة التي كانت تُحرّك النصوص توقفت فجأةً، وماتت، يموتُ مني الهوى حين ألقاها ، ويختلف خطاب النص الصوفي فجأةً، فبعد أن كان حرَّاً ملتهباً مشدوداً كالوتر بين الأرض والسماء، إذ به يرتخي متعباً، يصبح نصّاً تعليمياً توجيهيّاً بعد أن كان شوقاً، وتوقاً، ظمأً، وحنيناً، وجداناً يشتعل) تصل إلى هذه النتيجة بعد مقارنة النص (نورٌ بدا وعاد) ببيتٍ شعري للحلاّج هو :
يرى بعض النقّاد أنَّ أبرز سمةٍ لأسلوب الحلاّج هي (الجمل القصيرة)، ويُقدمون تعليلاً لهذه السمة هي (أنّ الحلاج صرفَ فعاليته بتجربته) ، لكن إذا عرفنا أنّ الحلاّج تركَ تراثاً قد لا يبدو كبير الحجم، لكنّه كبير الأهمية، ترك ديوان شعر، وأخباراً نثرية، وحياةً شخصيةً فنيّة، وترك الطواسين، فإن الطواسين لا تكفي ـ وحدها ـ منطقياً ـ للحكم في فعّالية الحلاّج، بأنّها صُرِفَتْ في تجربته الحياتية الشخصية، فلماذا لا تكون الجمل القصيرة، وباقي سمات أسلوب الطواسين (سبقاً حلاجيّاً إلى تثوير النص الصوفي من جوانبه الشكلية، أو الفنية، متأثرّاً بما حدث قبله، من ثورة في ميدان الشعر، على أيدي النواسي وأبي تمام، في عهد تفجير الحداثة التراثية) .
وصفَ الدكتور ناصف جمل الحلاّج القصيرة، والسريعة والمتلاحقة بـ السياق الأدبي النشيط نشاط الروح ونبَّه على أنَّ قصر الجمل، وانفصالها، وعطف بعضها على بعض، لا يعين مجرد التّراص والتجاور، بل هناك تفاعل كامن، يقول: (ألا يصحُّ إذا أُخِذَت العبارات متفاعلة لا متراصّة متجاورة أن تراها في خدمةِ طيفٍ باهرٍ تحسّ به، ولا تدركه) . وعامل التفاعل بينَ هذه الجمل هو المعنى الأصل الذي يُحركّها، ويدغمُ بعضَها في بعض، هو معنى مكانة النبي * عند الله، فمن هذا المعنى الأصل تنبثق معانٍ مثل شرح صدره ، و رفع قدره ، و أوجبَ أمره ، و أظهرَ بدره مبتدئاً بما قاله الله تعالى عن نبيّه *ألم نشرح لك صدرك،... ورفعنا لك ذكرك* .
والمعنى ليس معزولاً عن الكلمات التي ترجمته، فالمعاني الرفيعة الوامضة لن تعكسها إلاَّ مرآةُ لغةٍ صافية (لقد أُعيدَ إلى نظام العبارات إيماءات الغمامة والبرق، فأوحى الحلاّج مرةً بعد مرة أنّ مفاتيح العربية وأساليبها قديمة تتجدّد، وتجددّها لا يكون بمعزل عن روح متوهج فوق العقل والمنطق والحس والقياس) . وثمةَ اقتصادٌ في اللفظ في نص الحلاّج، لا مثيلَ لـه في نماذج النثر العربي، لكن في المقابل هناك وفرةٌ في المعنى، وتعدّد معانٍ مفتوحة على اللانهاية، واضحة وغامضة في آنٍ إلى ما لانهاية.
أمّا السجع فهو أبرزُ لونٍ فني في الطواسين، وكأنّ إحدى غايات الحلاّج الفنية، هي الانتصاف للسجع الذي ظُلِمَ كثيراً، ووُصِفَ بالهلهلة، وإبراز جمالياته.
لقد ولّد السجع إيقاعاً منتظماً متسارعاً، وصوتاً لعله العنصر الأكثر وضوحاً في الطواسين، والذي يُعوّض عن الغموض، فالسجع هنا ليس مجرّد زخرفٍ وزينة وتلاعب بالألفاظ (السجع هنا هو رنين الألفاظ، ويبدو أنّه هو صلة الربط بين المعاني) .
لم يكتفِ الحلاّج بالإيقاع المتولد عن السجع، بل أضافَ إليه إيقاعات الجناس، والتقسيم، والتشابه، والاشتقاق، والترادف، وعطف الجمل القصيرة، والإيقاع ليس لمجرد الإيقاع، إنّه إيقاعٌ يُخفي وراء صوتِه، وصمته عملية خلق، أو صوت أجراس موت باتجاه حياة أخرى، أو انتقال الروح من الظلمة إلى الضوء، وانتقال العقل ممّا يعرف إلى ما لا يعرف.
كما تولّدَ بالإيقاع أيضاً من الجناس في تناقض المفرد والجمع (سراج وسرج) و(قمر وأقمار)، و(نور وأنوار)، و(النهاية والنهايات). ومن الترادف (قمر وكوكب)، و(السرائر والضمائر)، ومن الطباق، (بدا وعاد)، و(وجود وعدم)، و(مشرقي ومغربي) و(الدليل والمدلول) و(موصول غير مفصول) و(الفتق والرتق) و(الظاهر والباطن)، و(الأول والآخر). لقد كسرت ألوان البيان والبديع صمت النثر، حولتها إلى موسيقا.
قد يكونُ السجع متعمّداً بدافعٍ جماليٍّ، ومعنوي للتنبيه على خطورة الموضوع، لكنه غير مُتكلّف، وليس هناك قسرٌ للألفاظ على السجع، هو سجعٌ قصير، ألفاظ السجعتين قليلة، والفواصل قريبة، وإذا قرأنا أهم الأحرف المسجوعة، فسنجدها أحرفاً موسيقية بطبيعتها، وحسب مخارجها، (الراء ـ الدال ـ الهاء ـ الميم ـ الباء ـ النون ـ اللام...) فضلاً عن وظيفةٍ قدّمها السجع عند الحلاّج، نادراً ما يُقدّمها عند غيره، وهي تأكيد المعاني من جانب، وتحديدها من جانب آخر.
وربّما آثر الحلاّج (السجع) كي يُقرَأ، وتصل أفكاره؛ لأنّ طريقة السجع ـ آنذاك ـ كانت غالبةً، ومُفضّلة في التعبير.