آفاق الروایة

محمد شاهین

نسخه متنی -صفحه : 137/ 93
نمايش فراداده

وفي هذه الأثناء، يغشاه حلم غريب خارج عن المكان والزمان يرى فيه نفسه في مكان ما في أحد السهول (حيث كان يقيم منذ زمن بعيد) راكباً في عربة يجرّها حصانان عبر الثلج والجليد، وعلى مقربة رأى قرية تبدّت له منها أكواخها السوداء، ونصف هذه الأكواخ قد احترقت ولم يبقَ منها سوى الدخان الأسود الذي التصق بالهواء وهو يصعد إلى أعلى. وبينما هو يطوف بالعربة رأى على جانبي الطريق عدداً هائلاً من النساء الفلاحات يقفن في صف على طول الطريق بدا عليهن الضعف والهزال، وقد لفت نظره امرأة كان لون وجهها قانعاً طويلة نحيفة جداً بدت كأنها في الأربعين على الرغم من أنها قد تكون لم تتجاوز العشرين، كانت تحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي، وكان قد جفّ الحليب في ثدييها ولم يبقَ فيهما نقطة واحدة، وظلّ الطفل يبكي بساعديه النحيلين العاريين وبقبضتي يديه الزرقاوين من البرد.

سأل ديمتري السائق الفلاح الذي كان يقود العربة، من الذي يجعل هذا الحشد يبكي؟ فأجابه السائق: الطفل هو السبب، وقد تأثر ديمتري بالطريقة التي أجابه بها السائق الفلاح وهو ينطق بكلمة الطفل، وأحبّ الطريقة التي نطق بها الفلاح الكلمة. وتبدّت له من خلالها مشاعر الشفقة. ولكن ديمتري ألحّ على السؤال بغباء، فقال لماذا لا يغطّون سواعد الطفل العارية؟ لماذا لا يلفّونها؟ وجاءه الجواب: لأنّ الناس فقراء احترقت بيوتهم لا خبز لديهم وهم يتسوّلون لأنّ كل ما لديهم احترق.

أنكر ديمتري ما كان يرى ولم يفهم من الأمر شيئاً وقال: أخبروني لماذا تقف تلك الأمّهات الفقيرات هناك؟ لماذا الناس فقراء؟ لماذا الطفل فقير؟ لماذا تبدو الأرض جرداء؟ لماذا لا يعانق الناس بعضهم بعضاً؟ لماذا لا يغنّون أغاني البهجة؟ لماذا يغطّيهم سواد البؤس؟ لماذا لا يطعمون هذا الطفل؟

وهكذا يجد في نفسه رغبة قوية في طرح هذه الأسئلة مع أنها تبدو له غير معقولة ولا معنى لها، وشعر في داخل نفسه بعاطفة لشفقة لم يعرفها من قبل. كان يرغب في البكاء، وفي عمل شيء ما لهؤلاء جميعاً حتى لا يضطر الطفل إلى البكاء، ولا يضطر غيره إلى أن يذرف الدموع مرّة أخرى منذ اللحظة التي يصبح فيها قادراً على العمل بالرغم من كل العوائق وكل الإهمال الذي يسببه آل كارامازوف لتحقيق هذا الغرض، وهكذا توهّج قلبه ورأى نفسه يندفع بشدّة نحو الضياء، وتملكه شوق للحياة لأن يعيش ويستمر في العيش بحياة جديدة حاملاً مشغل الضياء، أراد أن يسارع في عمل شيء من أجل كل هذا الآن وفي الحال.

وبينما كانت روحه ترتجف بالدموع، توجّه نحو المنضدة، وقال إنّه على استعداد أن يوقّع على أي شيء يريدون منه التوقيع عليه، وقال بصوت غريب فيه نور جديد وكان البِشْرُ يغطي وجهه: أيها السادة: لقد رأيت حلماً جميلاً".

هذا هو المشهد الذي استحوذ على انتباه فورستر فاقتطفه في أركان الرواية (1927) مُدَللاً على النبوءة كركن هام في الرواية يكشف الخطاب الروائي فيه عمّا يُروى ولا يفصح (120-122)