اعتبرت القراءة العربية الحديثة أن مقاربة المكان في الشعر الجاهلي ومحاولة فهم دوره في تكوين الفضاء الشعري والنفسي داخل القصيدة الجاهلية له من الأهمية الكبرى في فهم الشعر الجاهلي برمته، لأن الإنسان الجاهلي كان عدوه الأول في بيئته هو المكان " الصحراء" في حد ذاته، فـ (( الصحراء هنا هي الخارج، والصحراء عدوّ: لا تعطي؛ وهي مكان التغيُّر والغياب. المكان، لذلك، ذو أهمية أولى في فهم الشعر الجاهلي ))(48)، المكان بكل معطياته الطبيعية المختلفة.
سعى الشاعر الجاهلي إلى محاولة تملك المكان باللجوء إلى العمل من أجل إثبات ذاته، وكانت الفروسية والمغامرة هي الصفة التي تحقق له ذلك، فللمكان (( عند الشاعر الجاهلي وجهان: وجه يجذب، ففي المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس. ووجه يخيف، إذ من المكان تأتي مفاجآت السقوط. ومكان الشاعر الجاهلي، لريحه ورمله، نوع من المكان - الزمان: ينحني، يتداخل، ينتقل، يحيِّر ويُضيِّع. إنه المكان - المتاه. من هنا هاجس الشاعر الجاهلي ليجعل من المكان ملجأً. من هنا حسرته حين يرى الأشياء تتهدم وتغيب. فالمكان لغة ثانية خفية في تضاعيف القصيدة. هذا المكان لا يتيح أي شيء إلا بالقوة. تصبح السيطرة والتملك عند الإنسان، المحرك الأول. من هنا كانت حياة الشاعر الجاهلي بؤرة يتلاقى فيها المكان بالزمان، الضرورة والمصادفة. وهكذا يعرض نفسه قصدياً لمصادفات الحياة؛ فمن يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو، وحده، يعرف كيف يكون سيّد مصيره ))(49)، فإثبات الذات هو السلاح الوحيد الذي رأى فيه الشاعر الجاهلي فعالية في مواجهة المكان، ولا يتحقق إثبات الذات ولا يكون إلا بالفروسية، ولذلك نجد حضوراً قويا للفروسية وخصالها في الشعر الجاهلي.
فالمكان لا يتيح أي شيء إلا بالقوة. تصبح إرادة السيطرة والتملك عند الإنسان، المحرك الأول. من هنا كانت حياة الشاعر الجاهلي بؤرة نفسية يتلاقى فيها المكان والزمان، الضرورة والمصادفة. وهكذا يعرض نفسه قصدياً لمصادفات الحياة؛ فمن يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو، وحده، يعرف كيف يكون سيد مصــيره، ولا يحقق هذه السيادة إلا إذا عمل من أجل إثبات ذاته، وخير وسيلة لإثبات الذات هو أن يكون فارساً مجابهاً لمصاعب الحياة النابعة من المكان والزمان الذي يعيش بين فكيه.
لم تقف القراءة العربية الحديثة عند البعد النفسي الوجودي الأنطولوجي للمكان والزمان في الشعر الجاهلي فقط، من خلال مقاربتها لبعض الظواهر المكانية التي كان لها حضور في بناء فضاء القصيدة الجاهلية كالجبل، وإنَّما تنبهت إلى ظواهر أخرى كان لها حضور مميز في الشعـر الجاهلي كالمقدمة الطللية في بعدها المكاني والزماني، فقاربت فيها البعد الحنيني " النوستالجي " لما له من ارتباط بالمكان والزمان في بعديهما النفسي.