نعم لو قيل بأن ذلك لا يوجب جواز طرح رواية الاستبصار التي في سندها الحسن الثقة لكان له وجه ، لكنه غير وجيه لعدم احتمال كون من في الاستبصار حديثا ثالثا غير ما في التهذيب ، مع اتحادهما من جميع الجهات إلا الاختلاف في الحسن مكبرا ومصغرا ، ومع ما يقال :
إن الاستبصار قطعة من التهذيب .
وقد قلنا في محله :
أن لا دليل على حجية أخبار الثقة إلا بناء العقلاء الممضى من الشارع المقدس ، وليس بناؤهم على الاحتجاج بمثل هذه الرواية مع هذه الحال ، مضافا إلى أن متنها أيضا لا يخلو من نحو اختلال ، وهو هذا :
قال :
" قلت لابي عبدالله عليه السلام :
إن أصاب ثوبي شئ من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله ؟ قال :
لا بأس .
وأضعف منها سندا ودلالة روايته الاخرى قال :
" قلت لابي عبدالله عليه السلام :
إنا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون ، فيمر ساقيهم ويصب على ثيابي الخمر ، فقال :
لا بأس به إلا أن تشتهي أن تغسله لاثره " ( 2 ) فانها مضافا إلى اشتراكها مع ما قبلها في الحسين بن أبي سارة في سندها صالح بن سيابة ، وهو مجهول ، مع أن في متنها أيضا وهنا من جهة تقريره حضورهم في مجلس شربهم والمخالطة معهم حتى في المجالس التى يشربون فيها ويدور الساقي حولها ، مع أنه حرام منهي عنه ، ومن جهة دلالتها على طهارة الطوائف الثلاث ، فان الظاهر أن الخمر التى أصابت ثيابه من يد ساقيهم كانت من فضلهم ومن الكأس الدائر بينهم للشرب ، فتعارض ما دلت على نجاستهم آية ورواية وإجماعا ، وسيأتي محمل لمثلها .
ويتلوهما في ذلك رواية الصدوق قال " سئل أبوجعفر وأبوعبدالله عليهما السلام فقيل لهما :
إنا نشتري ثيابا يصيبه الخمر وودك الخنزير
نعم لا بأس ، إن الله انما حرم أكله وشربه ولم يحرم لبسه ولمسه والصلاة فيه " ( 1 ) إذ اشتمالها على ودك الخنزير أي شحمه ودسمه الذي لا يجوز الصلاة فيه بما أنه نجس العين وبما أنه ميتة وبما أنه من غير المأكول موجب لوهنها وعدم جواز التمسك بها ، والتفكيك في مثله كما ترى .
ونظيرهما في ضعف السند بل الدلالة رواية حفص الاعور قال :
" قلت لابي عبدالله عليه السلام :
الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف فيجعل فيه الخل قال :
نعم " ( 2 ) لجهالة حفص ، وقوة احتمال أن يكون السائل بصدد السؤال عن أن الدن الذي هو وعاء من خزف ينفذ فيه الخمر إذا جفف يجعل فيه الخل ولا ينفذ من جوفه الخمر فتسرى إلى الخل فتفسده وتنجسه ، ولم يكن في مقام السؤال عن طهارة الخمر ونجاستها بل تشعر الرواية أو تدل على نجاستها من حيث مفروغيتها ، والسؤال عن نفوذها وتنجيسها ، تأمل ( 3 ) وكيف كان الظاهر عدم الاطلاق فيها وبالجملة لما كانت الظروف التي تصنع فيها الخمر من نظائره منهيا
" المراد به إذا جفف بعد أن يغسل ثلاثا " على أن تصوير نفوذ الخمر من جوف الدن إلى الخل بعد ما جفف مشكل جدا . ( * )
" نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن كل مسكر فكل مسكر حرام ، قلت :
فالظروف التي يصنع فيها منه ؟ قال :
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله من الدباء والمزفت والحنتم والنقير " الخ ( 1 ) فلعل ذلك صار سببا للسؤال عن نحوها ، فلا يكون لها إطلاق يتمسك به للطهارة لو لم نقل بدلالتها على خلافها .
ومنه يظهر الكلام في حسنة علي الواسطى قال :
" دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى - على أبي عبدالله عليه السلام وكانت صالحة ، فقالت :
إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التى أمتشط بها الخمر وأجعله في رأسي قال :
لا بأس " ( 2 ) لقرب احتمال أن تكون شبهتها في حلية الانتفاع بالخمر وجواز التمشط بها .
ضرورة أنه مع تلك التشديدات في أمر الخمر والمسكر كقوله عليه السلام :
" لا يحل للمسلم أن ينظر إليه " ( 3 ) وقوله عليه السلام :
" ما أحب ان أنظر اليه ولا أشمه " ( 4 ) والنهي عن الانتفاع بها ، وتحريم الاكل على مائدة تشرب عليها الخمر ، والنهي عن الجلوس عند شراب الخمر ، وعن الصلاة في بيت فيه خمر ، وعن الظروف التي يصنع فيها الخمر ، وعن التداوي بها إلى غير ذلك ، ينقدح في الاذهان عدم جواز التطيب بها ، بل وسائر الانتفاعات ، بل لعله تنقدح فيها شبهة جواز مسها
ولمسها ولبس الثوب الذي أصابها .
( 2 ) الوسائل - الباب - 37 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 2 ( 3 ) و ( 4 ) الوسائل - الباب - 20 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 10 - 6 . ( * )
وعليه لا يبعد إنكار ظهور موثقة ابن بكير قال :
" سأل رجل أبا عبدالله عليه السلام وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب قال :
لا بأس " ( 1 ) في نفي البأس الغيري حتى يستفاد منه الطهارة أو عدم المانعية ، بعد احتمال أن يكون نفيه عن لبس ما يصيبه الخمر كما نفى البأس عنه في موثقته الاخرى المتقدمة ، وفيها " نعم لا بأس إن الله حرم أكله وشربه ، ولم يحرم لبسه ولمسه والصلاة فيه " فانها تشعر أو تدل على أن جواز اللبس واللمس أيضا كان مورد الشبهة والنظر فلا يبقى ظهورها في الطهارة بعد ما عرفت ، وهذا ليس ببعيد بعد التأمل فيما مر والتدبر فيما ورد في الخمر إن كان بعيدا بدوا .
وأما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال :
" سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة ؟ فقال :
إذا جرى فلا بأس به ، قال :
وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله ؟ فقال :
لا يغسل ثوبه ولا رجله ، ويصلي فيه ولا بأس به " ( 2 ) .
( 2 ) الوسائل - الباب - 6 - من ابواب الماء المطلق - الحديث 2 . ( * )
إذا جرى من ماء المطر لا بأس ، ويصلى فيه " ( 1 ) فهي من أدلة نجاسة الخمر لا طهارتها ، ضرورة أن السؤال عنها كالسؤال عن البول والكنيف بعد الفراغ عن نجاستها انما هو عن حال اصابة المطر لها ، والانصاف أن الاستدلال بمثلها للطهارة ليس إلا لتكثير سواد الدليل ، وإلا فهي من أدلة نجاستها .
وأما رواية فقه الرضا ( 2 ) فمع ضعفها بل عدم ثبوت كونها رواية مشتملة على ما لا نقول به ، فراجعها .
فما بقى في الباب إلا صحيحة ابن رئاب قال :
" سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلي فيه ؟ قال :
صل فيه ، إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الاثر ، إن الله تعالى انما حرم شربها " ( 3 ) فانها سليمة سندا ودلالة عن الخدشة بل يمكن أن يقال :
إن قوله عليه السلام " إلا أن تقذره فتغسل منه " الخ نحو تفسير للاوامر الواردة في غسل الثوب منها ، بل لقوله :
رجس ونجس ، بدعوى أن القذارة فيها بالمعنى العرفى ، فتكون شاهدة
" لا بأس أن تصلي في ثوب أصابه خمر ، لان الله حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ، وإن خاط خياط ثوبك بريقه وهو شارب الخمر إن كان يشرب غبا فلا بأس ، وإن كان مدمنا للشرب كل يوم فلا تصل في ذلك الثوب حتى يغسل راجع المستدرك - الباب - 30 - من أبواب النجاسات - الحديث 4 .
( 3 ) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب النجاسات - الحديث 14 . ( * )
" إن الله انما حرم شربها " الخ حاكم على ما تقدم لو لا صحيحة علي بن مهزيار قال :
" قرأت في كتاب عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا :
لا بأس بأن تصلي فيه ، انما حرم شربها ، وروى غير زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال :
إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله ، وإن صليت فيه فأعد صلاتك ، فاعلمني ما آخذ به ؟ فوقع عليه السلام بخطه وقرأته :
خذ بقول أبي عبدالله عليه السلام " ( 1 ) وحسنة خيران الخادم أو صحيحته المتقدمة ، فانهما حاكمتان عليها وعلى جميع الروايات في الباب على فرض تسليم دلالتها .
والعجب من الاردبيلي حيث رد الاولى تارة باحتمال أن المراد من الاخذ بقول أبي عبدالله عليه السلام هو الاخذ بقوله المشترك مع أبي جعفر عليه السلام ، وأخرى بأن المشافهة خير من المكاتبة ، وأنت خبير بما فيه من الضعف .
ثم أنه على فرض تسليم دلالة الروايات المذكورة على الطهارة ، والغض عما مر فلا شبهة في تعارض الطائفتين من غير جمع مقبول بينهما ، ضرورة وقوع المعارضة والمخالفة بين قوله عليه السلام :
" لا تصل فيه فانه رجس " وقوله عليه السلام :
" وينجس ما يبل الميل حبا من ماء " وقوله عليه السلام :
" لا والله ولا وقطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب " وقوله عليه السلام :
" إنه خبيث بمنزلة الميتة وأنه بمنزلة شحم الخنزير " وقوله عليه السلام :
" تغسل الاناء منه سبع
" لابأس بالصلاة فيه " وقوله عليه السلام :
" صل فيه " معللا بأن الله انما حرم شربها إلى غير ذلك .
ولو حاول أحد الجمع بينهما بحمل الطائفة الاولى على الاستحباب أو حمل الرجس والنجس على غير ما هو المعهود لساغ له الجمع بين جميع الروايات المتعارضة ، فانه ما من مورد إلا ويمكن حمل الروايات على ما يخرجها عن التعارض ، فبقيت أخبار العلاج بلا مورد ، وقد حقق في محله أن ميزان الجمع هو الجمع العرفي لا العقلي ، وهو مفقود في المقام ، وقد قلنا في محله :
إن الشهرة التي أمرنا في مقبولة عمر بن حنظلة في باب التعارض بالاخذ بها ، وترك الشاذ النادر المقابل لها ، هو الشهرة في الفتوى لا في النقل ، وتلك الشهرة ومقابلها معيار تشخيص الحجة عن اللاحجة ، والمشهور بين الاصحاب بين رشده ، ومقابله بين غيه ، والمقام من هذا القبيل ، والتفصيل موكول إلى محله .
ثم أن حكم الخمر سار في جميع المسكرات المايعة بالاصالة ، ولا يختص بالخمر والنبيذ المنصوص عليهما في الروايات ، لا لصدق الخمر عليها لغة أو عرفا ، ضرورة عدم ثبوت ذلك لو لم نقل بثبوت خلافه ولا للحقيقة الشرعية كما ادعاها صاحب الحدائق مستدلا بجملة من الروايات :
كرواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى :
" انما الخمر والميسر - الآية - أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيرة فقليله حرام - ثم ذكر قضية أبي بكر ، ثم قال :