189
المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها ، وقال :هذه كلها خمر حرمها الله ، فكان أكثر شئ أكفئ في ذلك اليوم الفضيخ ، ولم أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شئ إلا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، وأما عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شئ ، وحرم الله الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها " الخ ( 1 ) .وبما عن ابن عباس في تفسير الآية قال :" يريد بالخمر جميع الاشربة التى تسكر " وبقوله صلى الله عليه وآله المحكي في رواية عطاء ابن يسار عن الباقر عليه السلام قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وآله :كل مسكر حرام ، وكل مسكر خمر " ( 2 ) وبجملة من الروايات المصرحة بأن الخمر من خمسة أو ستة أشياء ، كصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي عبدالله عليه السلام قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وآله :الخمر من خمسة :العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر " ( 3 ) ونحوها غيرها ( 4 ) .قال في الحدائق :فقد ظهر بما نقلناه من الاخبار تطابق كلام الله تعالى ورسوله على أن الخمر أعم مما ذكروه من التخصيص بالمتخذ من العنب ، فيكون حقيقة شرعية .وانت خبير بما فيه ، ضرورة أن تلك الروايات وقول ابن عباسهامش: ( 1 ) الوسائل - الباب - 1 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 5 .( 2 ) الوسائل - الباب - 15 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 5 .( 3 ) الوسائل - الباب - 1 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 1 ( 4 ) راجع الوسائل - الباب - 1 - من ابواب الاشربة المحرمة الحديث 2 و 3 و 6 . ( * )
190
لا يثبت بها إلا إطلاق الخمر على غير المتخذ من العنب أحيانا ، وأما كونه على وجه الحقيقة فغير ظاهر ، والتمسك بأصالة الحقيقة مع معلومية المراد والشك في الوضع لاثباته كما ترى ، مع أن شأن الرسول والائمة صلوات الله عليهم ليس بيان اللغة ووضعها .والعجب منه كيف غفل عن سائر الروايات الظاهرة في أن الخمر مختصة بالمتخذ من العنب ، وأن ما حرم الله تعالى هو ذلك بعينه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله حرم غيره من المسكرات ، كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال :" وضع رسول الله صلى الله عليه وآله دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل :وضع رسول الله صلى الله عليه وآله من غير أن يكون جاء فيه شئ ؟ فقال :نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه " ( 1 ) فانظر كيف صرح فيها بعدم ورود شئ في حرمة المسكرات مع ورود حكم الخمر في الكتاب العزيز ، ورواية أبي الربيع الشامي قال :" قال أبوعبدالله عليه السلام إن الله حرم الخمر بعينها ، فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرام الميتة والدم ولحم الخنزير ، وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله الشراب عن كل مسكر ، وما حرمه رسول الله فقد حرمه الله عزوجل " ( 2 ) ورواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال :" سألته عن النبيذ فقال :حرم الله الخمر بعينها ، وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله من الاشربة كل مسكر " ( 3 ) .وأوضح منها صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليههامش: ( 1 ) الوسائل - الباب - 24 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 2 .( 2 ) و ( 3 ) الوسائل - الباب - 15 - من ابواب الاشربة المحرمة - الحديث 4 - 6 . ( * )
191
السلام قال :" إن الله لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر " ( 1 ) فانها صريحة في أن اسم الخمر لا يطلق على غيرها من المسكرات ، لكنها خمر عاقبة وأثرا وحكما وهي شاهدة للمراد في الروايات التى تمسك بها صاحب الحدائق بأن المراد من كون الخمر من خمسة أنها خمر لاجل كون عاقبتها عاقبة الخمر ، فهي خمر حكما لا اسما ولغة .ولا تنافي وبين ما تقدم من أن تحريم غيرها من رسول الله صلى الله عليه وآله ، فان الظاهر منها أيضا أن الله إنما حرم الخمر ، لكن سر تحريمه عاقبته ، ورسول الله صلى الله عليه وآله حرم كل ما فيه هذا الثمر ، وبعبارة أخرى :ان الله تعالى حرم الخمر فقط ، لكن حكمة الجعل إسكاره ، ورسول الله صلى الله عليه وآله حرم كل ما فيه هذه الحكمة .ولا لكون النبيذ حقيقة في جميع الانبذة وإن يظهر ذلك من بعض اللغويين قال في القاموس :" النبيذ :الملقى ، وما نبذ من عصير ونحوه " ( 2 ) وفى المجمع :" والنبيذ ما يعمل من الاشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك " وفي المنجد " النبيذ المنبوذ الخمر المعتصر من العنب أو التمر ، الشراب عموما " وذلك لان الشايع في عصر صدور الروايات ومحله هو استعماله في النبيذ من التمر ، وقد يطلق على الزبيب ، فكان المستعمل فيها منصرفا عن سائر الانبذة جزماهامش: ( 1 ) الوسائل الباب - 19 - من أبواب الاشربة المحرمة - الحديث 1 .( 2 ) وفيه أيضا :" الخمر ما أسكر من عصير العنب ، أو عام كالخمرة والعموم أصح " وفي تاج العروس والمصباح الخمر كل مسكر خامر العقل واختمرت الخمر :ادركت وغلت .
192
وعن الزبيب ظاهرا ، وقد تقدم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن الخمر من خمسة ، وخص النبيذ بالتمر ، والنقيع بالزبيب ولعل شيوع استعماله فيه لاجل كون التمر في محيط صدور الروايات شايعا جدا وما كانوا ينبذون من غيره إلا نادرا ، وكيف كان لا يمكن استفادة حكم سائر المسكرات من روايات النبيذ .بل لروايات خاصة - مضافا إلى عدم الخلاف فيه ممن قال بحرمته وقد مر عدم الاعتداد بخلاف من خالف في المسألة المتقدمة - كموثقة عمار عن أبي عبدالله عليه السلام قال :" لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر لان الملائكة لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله " ( 1 ) .والخدشة فيها بأن اشتمالها على النهي عن الصلاة في بيت فيه خمر المحمول على الكراهة يوهن دلالتها على الحرمة الوضعية مدفوعة أولا بأن مجرد ورود نهي في صدرها قام الدليل على عدم حرمته لا يوجب الوهن في نهي آخر مستقل مستأنف .وثانيا اقتران المسكر بالخمر وعطفه عليها يدفع توهم الوهن لو فرض ، فان النهي عن الصلاة في ثوب أصابه خمر ، تحريمي كما مر ، ولاجل نجاستها كما صرحت بها رواية خيران الخادم ، وكذلك في المسكر المعطوف عليه ، وحسنة عمر بن حنظلة قال :" قلت لابي عبداللهالمجلد:3 من ص 192 سطر: 19 الى ص 200 سطر: 18 عليه السلام :ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره ؟ فقال :لا والله ، ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب " ( 2 ) بل وصحيحة علي بن مهزيار بناء على أن قوله
هامش: ( 1 ) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب النجاسات - الحديث 7 .( 2 ) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الاشربة المحرمة - الحديث 1 . ( * )
193
عليه السلام :" يعني المسكر " لم يكن تفسيرا للنبيذ ، بل يكون المراد التعميم في السؤال ، وهو وإن كان للراوي ظاهرا ، لكن تقرير أبي الحسن عليه السلام إياه وإرجاعه إلى قول أبي عبدالله عليه السلام من غير التعرض للتفسير دال على ارتضائه به ، لكن للخدشة فيها مجال ، لاحتمال أن يكون التفسير للنبيذ ، فانه على قسمين محلل ومحرم مسكر .والانصاف أن روايات النبيذ مع التقييد بالمسكر أو التفسير به وما وردت في الخمر كقوله عليه السلام :" إن الثوب لا يسكر " وقوله عليه السلام :" ان الله لم يحرم الخمر لاسمها لكن حرمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبته الخمر فهو خمر " مما تؤيد نجاسة مطلق المسكر ، بل لاحد أن يقول :إن المستفاد من الاخيرة عموم التنزيل وإطلاقه ، ومجرد كون صدرها في مقام بيان التحريم لا يوجب صرف الاطلاق ، إلا أن يقال :إن المعروف من خاصة الخمر في تلك الازمنة هو حرمتها لا نجاستها ، فانها كانت محل خلاف وكلام ، فينزل على الخاصة المعروفة في زمان الصدور ، وهو لا يخلو من تأمل وكلام .وأما التمسك لاثبات النجاسة بما دلت على أن الخمر من خمسة أشياء بدعوى أن الحمل إما حقيقي كما قد يدعى ، وإما لثبوت أحكام الحقيقة فغير تام ، لان الحمل ليس بحقيقي كما تقدم ، وليس في تلك الروايات إطلاق جزما ، فهي أسوء حالا من الرواية المتقدمة وإن عكس الامر شيخنا الاعظم رحمه الله .ثم أن مقتضى الاصل طهارة المسكر الجامد بالاصالة وإن صار مايعا بالعرض ، كما نص عليها في محكي التذكرة والذكرى وجامع المقاصد والروض والمسالك والمدارك والذخيرة ، بل عن الاخير أن الحكم194
بنجاسة المسكرات مخصوص عند الاصحاب بما هو مايع بالاصالة ، وعن المدارك أن الحكم به مقطوع به في كلام الاصحاب ، بل عن الدلائل نقل الاجماع عليه ، وعن الحدائق اتفاق كلهم عليه ، وعن شرح الدروس عدم ظهور الخلاف فيه .وقد يتوهم شمول بعض الروايات الدالة على النجاسة له أيضا كعموم التنزيل في الرواية المتقدمة وقوله صلى الله عليه وآله :" كل مسكر حرام وكل مسكر خمر " إلى غير ذلك ، وفيه أنها منصرفة إلى المايعات ، خصوصا مع حصر الخمر في الروايات التى تقدم بعضها بالاشياء التى كلها مايعات بالاصالة ، مضافا إلى قوله عليه السلام في رواية أبي الجارود :" فكل مسكر من الشراب فهو خمر " هذا مع عدم الجزم بعموم التنزيل في تلك الروايات ، فلا ينبغي التأمل في قصورها عن اثباتها .كما لا ينبغي التأمل في نجاسة المنجمد من المسكر المايع بالاصالة للاصل ، بل إطلاق الادلة ، ضرورة أنه لو جمد الخمر أو المسكر لا يسلب عنه الاسم ، فتكون خمرا جامدا ومسكرا كذلك ، لعدم انقلاب الحقيقة بالجمود عما هي عليه ، نعم لو زال عن غير الخمر والنبيذ اسكاره يتشبث فيه بالاستصحاب لاثبات نجاسته ، ولا شبهة في جريانه ( 1 ) وأماهامش: ( 1 ) وحكي عن العلامة في المنتهى الحكم بطهارته ، وقد يقال في تقريب طهارته وعدم جريان استصحاب النجاسة فيه :إن الحكم كان معلقا نصا وفتوى على المايع المسكر ، وهو منفي صدقه عليه نعلا ، ولا يمكن إجراء استصحاب النجاسة لتغير الموضوع قطعا ، مضافا إلى أن الحكم منقلب بنفس الدليل لو قلنا بحجية مفهوم الوصف .وفيه أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوك ( * )
195
الخمر والنبيذ فالحكم تابع لعنوانهما .تنبيه :قد وقع الخلاف بين أصحابنا قديما وحديثا في نجاستها عصير العنب الذي غلى ولم يذهب ثلثاه ولم يعرض له إسكار ، بعد عدم الاشكال والريب في حرمته ، ثم اعلم أنه لا يجوز الاتكال في المسألة على دعاوي الشهرة وعدم الخلاف والاتفاق ، لتراكم الاقوال والدعاوي فيها من الطرفين ، فربما يدعى الشهرة على نجاسته بين المتأخرين أو مطلقا ، أو يدعى عدم الوقوف على القول بها إلا من أبي حمزة من القدماء والمحقق في المعتبر ، أو يقال :إن القول بالنجاسة بين الطبقة الاولى من فقهائناهامش: فيها وان موضوع القضية المتيقنة فيه هنا عبارة عن هذا المايع الخارجي المشار اليه ، لا عنوان المايع المسكر الكلي ، وهو بشخصيته موجود عرفا وإن سلب عنه عنوان المسكر ، وهذا نظير الكبر والصغر والمرض والصحة في الشخص الخارجي حيث بقيت شخصيته مع تبادل العناوين والعوارض عليه ، فعليه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة فيه ، نعم لا يمكننا التمسك بالدليل الاجتهادي على نجاسته للعلم بعدم بقاء موضوع الدليل الاجتهادي ، وبالجملة أن ما هو المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها ، لا وحدة المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي ، ولعل هذا التوهم نشأ من الخلط بينهما كما هو الظاهر من كلامه ، فما أفاده الاستاذ دام ظله من صحة جريان استصحاب النجاسة فيه متين جدا ، وأما التمسك بمفهوم الوصف فهو كما ترى .