عبد الكريم شعبان
لن أقف في هذه الشهادة موقف الناقد من شعر الشاعر "محمد حمدان" ولكنني سأعود بالذاكرة إلى ما ينوف على أربعين عاماً وإلى مرحلة الدراسة الإعدادية في ثانوية الشهيد "محمد سعيد يونس" في جبلة حين دخل علينا ذلك الشاب مدرس اللغة العربية الفارع الطول ذو الشعر الفاحم والمرجَّل بعناية إلى الخلف.. وبثيابه الأنيقة.. وجسده النحيل الذي ينهض كشجرة حور.. بعينين سوداوين حادتين تلمعان بالذكاء.. والجاذبية.. وبصوته الرخيم الجذاب الممتلئ ثقة.. وفصاحة.. وعلى ذكر فصاحته.. كان بيننا زميل ظريف يتفاصح مقلداً إياه.. "قلت لكم مراراً وتكراراً" وظلت هذه العبارة مثل تحية الصباح بيني وبين ذلك الصديق وإلى اليوم حين ألتقيه.. في مكان عام أو خاص. لا أعرف كيف ترسَّخ شكل أستاذي لأنه المدرس الوحيد على مدى حياتي الدراسية الذي كان يتحدث بلغة صافية فصيحة.. وبقصدية عنيدة في سبيل وضع الأمور في نصابها.
كانت لـه جاذبية واضحة لدى طلابه.. خصوصاً عندما يصل إلى الدقائق الخمس الأخيرة من الدرس. لقد كانت مدار نقاشات حرة ثقافية واجتماعية.. ووجدانية.. وبدأنا نخرج أمامه من خجلنا.. ونتحدث بحرية عن مشاعرنا وأحوالنا الخاصة.. هذه الدقائق الخمس كانت وقفة جمالية.. ووجدانية تمتلئ فرحاً..
مرة قال لنا: أبنائي هناك مكتبة بالجوار ولديها كتاب المتنبي تبيعه على أجزاء صغيرة.. وبسعر زهيد.. وقصدنا تلك المكتبة ورحنا نشتري تلك الأجزاء بشرح العكبري.. وتجمع لديَّ عشرون جزءاً من ديوان "المتنبي". تلك الأجزاء كنت أغيِّبها بفرح لم أدرك سببه.. وأجزم أنها كانت اللبنة الأولى في مدماك شاعريتي المقبلة..
ومهما نسيت فإنني لن أنسى موضوع التعبير الذي أنطقني ثلاثة أبيات من الشعر.. حول (قيمة العمل) وكنت في الصف الأول الإعدادي... منها:
وحين قرأت الموضوع أمام أستاذي "محمد حمدان" وأسندت الأبيات إلى نفسي استوقفني قائلاً.. يا عبد الكريم.. موضوعك ممتاز.. ولكنك أخذت أبياتاً لأحد الشعراء ونسبتها إلى نفسك.. ومن الواجب حين نستعير شعر الآخرين أن نضعه بين قوسين أو نذكر اسم الشاعر.. وهذا الذي فعلته يعتبر سرقة لجهد الآخرين.. وحاولت وقتذاك أن أدافع عن شاعريتي.. ولكن دفاعي كان ضعيفاً وغير مجدٍ وحين رجعت إلى البيت حاولت أن أنفي التهمة عني بالشعر فخانتني شجاعتي ومنعتني محبتي لهذا الأستاذ أن أقول شيئاً يخدشها.
مرّت الأيام.. والسنون.. وبعد أكثر من عشرين عاماً التقيت أستاذي "محمد" عند صديقنا الشاعر "أحمد الخير" لم أعرفه البتة. كان جالساً على الكرسي وراء مكتب صديقنا مدير مركز الفنون في اللاذقية بشعر أبيض كالثلج وجسد ممتلئ.. استمعت إلى الحوار وشاركت فيه ومرت ساعة أو أكثر قبل أن أكتشف من خلال نبرة الصوت أن المتحدث كان أستاذي "محمد حمدان" مدرس اللغة العربية في جبلة. نبرة الصوت راحت تترشح إلى أعماق ذاكرتي لأقف صارخاً.. أرجوك أنت هو.. قال: هو من؟ قلت الأستاذ محمد حمدان.. قال: أجل.. قلت: أنت أستاذنا الذي أحببناه.. ورويت حكاية الموضوع..
فقال: لقد نسيت تلك الحادثة.. لكني ما أزال أشك في صحة نسبة هذه الأبيات لك.. (وضحك).
ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع لقاءاتنا وحواراتنا..
جمعتنا الكلمة وطريق الشعر.. واتحاد الكتاب.. والهم الواحد والدرب الواحد.. والبلد الواحد..