أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى ( ولتجدن أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص وقيل : التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه اخصر للمبالغة بالذم وقيل : ليكون على نمط ( الذين شمنوا ) والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ( روما لزيادة التوضيح والبيان والتعبير بقوله سبحانه وتعالى ( الذين قالوا إنا نصارى ( دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهر اعتقاد حقية الاسلام # وقال ابن المنير : لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم : ادخلوا الأرض المقدسة قالوا ( إدهب أنت وربك فقاتلا ) والنصارى لما قيل من أنصاري إلى الله قالوا : ( نحن أنصار الله ) وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز وجل ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ) لكن ذكر ههنا تنبيها على إنقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ السلام عن جعل مافيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا : ولتجدن أضعفهم مودة الخ أو بأن يقال اولا : لتجدن أبعد الناس مودة للايذان بكمال تباين مابين الفريقين من التفاوت ببيان أن احدهما في اقصى مراتب النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكلام في مفعولي ( لتجدن ) وتعلق اللام كالذي سبق والمراد من النصارى على ماروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وعطاء والسدي الجاشي وأصحابه # وعن مجاهد أنهم الذين جاؤا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من اهل الشام وهم بحيرة الراهب وابرهة وادريس وأشرف وتمام وقثم ودريد وأيمن والظاهر العموم على طراز ما تقدم ( ذلك ( أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا ( بأن منهم ( أي بسبب أن منهم ( قسيسين ( وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل : القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم وقيل : قص الأثر وقسه بمعنى وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة وكان الأصل قساسة إلا أنه كثرت السينات فابدلوا إحداهن واوا وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ماليس منه وبقي من علمائهم واحد على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فما كان على هديه ودينه فهو قسيس ( ورهبانا ( جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبنة والرهبانية وقيل : إنه يطلق على الواحد والجمع وأنشد فيه قول من قال : لو عاينت رهبان دير في قلل لأقبل الرهبان يعدو ونزل وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون والترهب التعبد في صومعة وأصله من الرهبة المخافة وأطلق الفيروزابادي والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة وفي الحديث لارهبانية في الإسلام والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها والتنكير في ( رهبانا ) لافادة الكثرة ولابد من اعتبارها في القسيسن أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنينفإن إتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها