يولده الفساد من مشكلات (تدخل خارجي في سياسات الحكومة الوطنية وإملاء شروط هي في غنى عنها لو كان أعضاء نخبها السياسية ومسؤولوها العموميون بعيدين عن آليات الفساد). لابد لنا من الإشارة إلى ما يؤثره الفساد على النظام العام في المحور الآخر من بحثنا هذا تتمة للموضوع.
يظهر من خلال الدراسة لموضوع الفساد أنه موضوع يمد أذرعه إلى كثير من المفاصل في المجتمع والدولة، وله آثار سلبية خطيرة على الأنظمة والتشريعات على حياة الأفراد، عليه يكون بحث أثر الفساد على النظام العام واحداً من أهم تلك الآثار السلبية.
إن فكرة النظام العام ارتبطت بالمجتمع والمحافظة على حاجته للاستقرار والسلام، إلا أن تلك الفكرة هي في الأصل فكرة نسبية مرنة تختلف باختلاف الزمان والمكان فهي تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وربما يصل الاختلاف إلى أن يحدث بين منطقة وأخرى في كيان الدولة الواحدة، طبقاً لفلسفة النظام السياسي السائدة فضلاً عن ما تسبب فيه اتساع دور الدولة وتزايد تدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من سعة في مرونة المفهوم.
ولنستطيع الوقوف على ذلك الأثر للفساد على النظام العام (هذا المفهوم المرن) لابد من الاستفادة من الآراء التي حددت وحاولت وضع فكرة النظام العام في إطار قانوني وإعطاء دلالة مفهومية لـه برغم صعوبة تحديد مفهوم جامع مانع للفكرة.
حيث يرى البعض ومنهم أستاذ القانون الفرنسي (Hauriou) في النظام العام "أنه حالة واقعية عكس الفوضى، وعندئذ يكون النظام العام معداً لا ليستخدم لوصف وضع سلمي هادئ".
أي أن يفسره على أساس حالة الفوضى فحسب، وليس لوصف حالة الاستقرار في الأوضاع السلمية الهادئة، والذي حدا بأستاذ فرنسي آخر هو (Blaevoeet) أن يعرفه "بأنَّ غاية الضبط هي حالة واقعية سلبية وكل أعماله تستهدف منع الإضراب".
ما ورد يدل أن التفسير يحصر النظام العام في حالة سلبية لا تدعو الضبط إلى التدخل إلا إذا أُحْدِثَ تهديد أو اضطراب.
ولتوسيع دور الدولة وتطوير المفاهيم برزت أفكار جديدة بخصوص النظام العام منها رأي (د. محمود عصفور) الذي يقول:
((لا يمكن أن يُعَرَّفَ النظام العام التقليدي تعريفاً سلبياً وهو اختفاء الإخلال، وإنما يجب أن ينطوي على معنى إنشائي يتجاوز النتيجة المباشرة، ولهذا لم يعد الهدوء العام يعني القضاء على الضجة والاضطرابات الخارجية وإنما راحة السكان)).
لذا على أساس اتساع فكرة النظام العام من خلال ما قدمنا لـه ذهب البعض إلى تعريف النظام العام على أنه:
((ذلك التنظيم الذي يتسع ليشمل جميع أبعاد النشاط الاجتماعي))
بعد هذا لابد لنا من القول بأن الآراء استقرت بعد ذلك في الفقه القانوني على أن مدلول النظام العام يتضمن عناصر ثلاثة (الأمن العام)، (الصحة العامة)، و(السكينة) كعناصر تتضمن أغراض النظام العام وأهدافه.
إن العناصر الثلاثة المشار إليها كمدلولات للنظام العام ترتبط بها الأمثلة الآتية التي سنحاول من خلالها توضيح المراد من مبحثنا هذا.
إن المراقبين للفساد في كثير من الأحيان ينسبون إليه أنه يؤدي إلى آثار سلبية جمة منها العزلة السياسية وعدم الاستقرار التي ينجم عنها النفور العام، وأنموذج المكسيك الذي أشرنا إليه في موضع سبق خير مثال على ذلك ففي ظل قطاع عام يضم أكثر من مليون ونصف عامل، انتشر الفساد في ظل رقابة إدارية بشعة وعديمة الفائدة (على حد تعبير أحد المسؤولين الحكوميين في المكسيك) مما تسبب في انهيار الاقتصاد وجعل موجة النمو في المكسيك تتلاشى كما يتلاشى زبد البحر، وقد وصل أثر ذلك الهياج الشعبي إلى حد أن القرى المكسيكية، وتمرداً منها، بدأت ترفع إلى جانب شعارات (الأحزاب الشيوعية) المطرقة والمنجل