محور التجاوزی فی شعر المتنبی

أحمد علی محمد

نسخه متنی -صفحه : 82/ 15
نمايش فراداده

الأفكار على نحو عميق, و لم تعبر عن الفكرة من خلال إمكانات الشعر, وربما كان المتنبي بعبقرية الشاعر وحيداً في مضمار استطاع إيجاد لقاء بين الفكر والشعر على نحو مقنع, وهذا هو السر فيما يبدو لي في سيرورة معانيه العقلية التي لا تزال موضع استشهاد. فالمتنبي لفت النظر في أمثاله الشعرية السائرة إلى أهمية الفكرة العميقة, وقد طوع القصيدة لحملها دون أن تخسر طاقاتها العاطفية والخيالية.

إنّ الشعر عند المتنبي، مع أنه حمل الفكرة العميقة والأمثولة الباقية لم يتحول إلى نظم, لأنَّه لم يغرق في تفصيلات الأفكار, ولم تكن الفكرة بحال من الأحوال تحد من الجانب الإمتاعي الذي يعد رسالة الشعر الأساسية, وهذا يُعَدُّ تحولاً في تاريخ الشعر العربي, كما يعد تجاوزاً للأصل الذي يستدعي أن يكون الشعر للذات وللعاطفة وللانفعال, ويكون النثر مجالاً للتأمل والفلسفة والكلام? والجدل.

قبس المتنبي من الأفكار ما يناسب القصيدة, فكانت الحكمة في شعره لا تتجاوز الحد الذي يخرج القصيدة عن طبيعتها, فلم يكن لـه قصيدة في الحكمة الخالصة, ولم يكن لـه شعر خالص لوجه الشعر, بل كان لـه من الشعر ما يشع ببعض الحكمة, ومن الأفكار ما يحفظ للقصيدة كيانها. لقد جعل المتنبي الحكمة في خدمة موضوع الشعر, لا بل جعل المعنى الحكمي بمنزلة الدليل على صدق أقواله الشعرية, ولهذا لم يُغرق الكلام بالأفكار محافظاً على طبيعته الشعرية؛ لأنه شاعر وليس مفكراً, كما وعى أنّ الشعر بطبيعته الهشة لا يستطيع أن يكون صدى للفكر العميق, فالفكر يستلزم التفصيل والدقة والعمق والشمول وهذا كله مضاد للشعر الموجز المجمل القائم على الإشارة والإيحاء والتلميح, يقول :


  • أتيتُ بمنطق العرب الأصيل فعارضه كلامٌ كان منهُ وهذا الدّرُّ مأمون التشظِّي وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

  • وكان بقدرِ ما عانيت قيلي بمنزلة النساء من البعول وأنت السيف مأمون الفلول إذا احتاج النهار إلى دليل إذا احتاج النهار إلى دليل

من الواضح أنّ البيت الأخير بما ينطوي عليه من نزوع إلى الحكمة يجسد لديه حاجة إلى البرهان لتأييد مقولاته الشعرية ومعانيه الذاتية, والمقطوعة في الأساس ليست محاجة عقلية بل كانت رداً على من عاب عليه بعض معانيه الحِكمية.

8 ـــ الرمز

حين نتكلم في شعر المتنبي على الرمز لا نريد أن نخرج ذلك الشعر من الزمن الذي قيل فيه, ولا نريد أيضاً أن نشير إلى وعي بقضية الفنّ قد يكون من باب إسقاط الفكر المعاصر على موضوع نعترف أنه جزء من التراث, لسبب وجيه أن الرمز والرمزية من منجزات الشعر الحديث والفكر الحديث, وكان لذلك دواعيه الموضوعية والفنية, غير أنّ بعض شواهد المتنبي الشعرية تجسد في الواقع إحساساً يشي بحسن استعماله الرموز والأقنعة وغيرها من الوسائل التي تحمل مقاصد شتى, وهذه مسألة استرعت انتباه النقاد السابقين حين وجدوا المتنبي يحمّل خطاباته الشعرية معاني فائضة لم يكن بمقدور الوسائل البلاغية من كناية وتورية ومجاز استيعابها, فكان أن استعمل الرمز للدلالة على الوسائل التي اتبعها ليعبر عن ازدواجية المعنى. والرمز عند المتنبي على أية حال لا يُختزل في كلمة أو يستقل بتعبير, بل قد يشمل موقفاً, يكشف فيه عن طرف من المعنى, ويضمر طرفاً آخر, أو يعمد إلى الكلام على معنى مزدوج في خطاب رمزي، فمن ذلك قصيدته التي مدح فيها كافوراً الإخشيدي وتشوق في الوقت نفسه إلى سيف الدولة الذي فارقه غاضباً حيث يقول :