والمعنى والقافية والوزن، متجاوزاً سائر العناصر كالعاطفة مثلاً. والواقع أنّ محاولة قدامة تؤخذ بعين الاعتبار حين نتأمل الآلية التي ينجز من خلالها النقاد أحكامهم، مع ما يحيل عليه تعريفه من خلافات أبرزها أنه لم يجز فيه الجانب الشكلي، إضافة لمحوه الفارق بين الشعر والنظم وغير ذلك من الاعتراضات التي يظن بعض من تأمل هذه المسألة أنّها وجيهة، غير أنّ قدامة فيما يبدو لي بمنطقه العقلي رأى أن الحكم النقدي بحاجة إلى معيار يقلص من طغيان الذات في النقد على الموضوع، بعدما أحس أنّ القراءة النقدية بصيغتها الذاتية اعتداء سافر على الإبداع، إذ تتجسد تلك الصيغة بدءاً بالاختيار المحكوم بالذوق أساساً، ثم بالمقارنة التي تبيح للناقد الانحراف بالموضوع إلى الجهة التي يريدها دون ضابط، يضاف إلى ذلك التحلل من التعليل المنطقي ومسوغات الحكم. لقد كان النقد عند كثير من قراء شعر المتنبي ولاسيما في القديم وسيلة للنيل منه. إنه أداة جارحة للنصوص أكثر منه أداة لتفسيرها وتأويلها وتبيان ما انطوت عليه من قيم فنية وموضوعية، من أجل ذلك بدت قراءات خصومه من النقاد تقوم على إكراه النصوص، لا بل إكراه النقد ليقف عند المساوئ والسقطات لأسباب شخصية كما سنبين، ولم يكن بمقدور هؤلاء النقاد أن يجدوا في شعر أبي الطيب نقصاً لولا أنه فريد ومنحاز إلى التطاول على العُرف.
كان موضوع السرقات من أخطر المسائل التي خاض فيها النقد الأدبي القديم، لما لهذا الموضوع من مزالق والتواءات وملابسات وعوالق يتعذر حصرها وتبيان حدودها والفصل فيها على نحو يكشف عن جوانب ذلك الموضوع بعيداً عن التحامل والمواقف الشخصية والأحكام التأثريّة، ولا عجب بعد ذلك أن يكون هذا الميدان مقصوراً على جهابذة العلم وكبار نقدة الكلام، من أجل ذلك قال الجرجاني: "ولستَ تُعَدُّ من جهابذة الكلام ونقاد الشِّعر، حتّى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيطَ علماً برتبه ومنازله، فتفصلَ بين السَّرق والغصب، وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السّرق فيه، والمبتذل الذي ليس واحداً أولى به من الآخر، وبين المختصّ الذي حازه المبتدئ، فملكه واجتباه السابق فاقتطعه" .
وتتبدى خطورة ذلك الموضوع من جراء جعله باباً للقدح والذم والنيل من الخصوم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ السرقة بحدّ ذاتها نقيصة تلغي التفرد والإبداع، لهذا حاول العلماء تقييد جوانبها وحصرها في حدود لم تخفَ عن أهل العلم، إضافة لذلك فقد ميزوا بين طرفين للسرقة: أحدهما يكون مذموماً، والآخر يكون محموداً، وقد انتبه القدماء في موضوع السرقات إلى مسألة مهمة لخصوها بقولهم:
إنَّ "اتكال الشاعر على السرقة في بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل". وهذا معناه أن تقرّي معاني المتقدمين وتنخلها والإفادة منها والإضافة إليها من صناعة الشاعر، كما أنّ تميز المعاني وتبيان جيدها من فاسدها وشريفها من مبتذلها، والحكم بالفضل للسابق إليها، والإقرار بالإحسان لمن ولّد منها وأضاف إليها من صناعة الناقد. فالمعاني كما يرى نَقَدةُ الكلام لا تكون في رتبة واحدة، فسرقة مخترعها وفريدها لا يوازي أخذ ساقطها ومبتذلها؛ لأنّ الفريد غير متاح لجميع الشعراء، في حين أنّ المتبذل مطروحٌ في الطريق يتجاذبه القاصي والداني، فهو يدخل في كلام سائر الشعراء، وليس بمقدور أحد الزعم بامتلاكه، يقول ابن رشيق: "والسَّرق إنّما يكون في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم، ومستعملة في محاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال إنه أخذه من غيره".
لقد حدد المتقدمون مفهوم السرقات، وبينوا الجوانب التي تستوجب اعتبار الشاعر سارقاً، وميزوا المعاني المعدودة في باب السّرق من المعاني المشتركة الجارية في طباع الناس، وأظهروا الفوارق بين السرقة المذمومة والمحمودة، ومع ذلك فقد بقي باب السرقات عند كثير من القدماء مجالاً للذم والقدح وسبيلاً لإذكاء نار الخصومة، ولعل المعركة النقدية التي دارت حول المتنبي وشعره لا تبعد عن هذا الجانب، إذ نجد ابن رشيق وهو يعرض موضوع السرقات في كتابه "العمدة" يهاجم ناقدين تتبعاً سرقات المتنبي، ولم يكن في واقع الحال مدافعاً عنه، غير أنّ موضوع السرقات الذي كان