محور التجاوزی فی شعر المتنبی

أحمد علی محمد

نسخه متنی -صفحه : 82/ 36
نمايش فراداده

الأجزاء وتماسك الأقسام، منبهاً على ما يمتازان به من سمات على نطاق اللّغة والأسلوب والمعاني والموضوعات، منتهياً إلى القول: "إنّ نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابه، وله أسلوب يختصّ به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام".

أما الزمخشري فقد دقق النظر في الخواص الأسلوبية لبعض سور القرآن في كتابه (الكشاف)، كما هو الأمر في سورة الحمد: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: "فإن قلت لِمَ عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، قلت هذا يسمى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم".

وقد ظل البحث الأسلوبي قائماً على وصف وجوه الاستخدام اللغوي، وملاحظة وجود المنبهات الأسلوبية، إلى أن جاء عبد القاهر الجرجاني فقدم تصوراً دقيقاً لمفهوم الأسلوب فذكر؛ "أنّه الضربُ من النّظم والطريقة فيه"، ثم أشار إلى أنّ مجالات الأسلوب في النّظم لا تخرج عن ترتيب الألفاظ في أنساق بصورة تتبع ترتيب المعاني في نفس المتكلم، ومن خلال ذلك تنبه على صلة النحو بالمعاني فقال في كلامه على النظم: "أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه النحو وتعمل على قوانينه وأصوله"، وعلى هذا الأساس غدا النحو متصلاً عنده بالمستوى الجمالي مثل اتصاله بجانب الاستخدام المثالي، إذ النحو لا يعني بنظره العلم بمواضع الإعراب، فهذا كما يشير أمر مشترك بين الناس، وهو ليس مما يستنبط بالفكر والروية، وليس لأحد فضل على غيره إذا علم أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، فهذه إمكانات متحققة في العلم، وإنّما المزيةُ الوصفُ الموجب للإعراب، فأدرك نظام اللّغة من خلال النّحو، وهو نظام يختلف في تراكيبه من جنس في الكلام إلى جنس آخر، وهنا أشار إلى أنّ منزلة كلّ شاعر تظهر من خلال اعتماده على إمكانات محددة من إمكانات النّحو، وإنْ تشابهت المعاني وتداخلت الأغراض، فإنّ المقارنة تبقى قائمة بين تركيب وتركيب، ثم تظهر الفروق بعدئذ في نظم الكلام، من أجل ذلك يغدو نقل المعنى وتأديته بالصورة الموضوع عليها محالاً؛ لأنّنا سنجد صياغة جديدة يتحوّل إليها المعنى بمجرد نقله من سياق إلى سياق، يقول: "ولا يغرنّك قول الناس قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه فإنّه تسامح منهم، والمراد أنّه أدى الغرض فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول حتّى لا تعقل ههنا إلا ما عقلته هناك، وحتّى يكون حال الصورتين المشتبهتين في عينيك كالسوارين والشنفين ففي غاية المحال".

لقد خلص عبد القاهر في تأييده علاقة النحو بالنّظم وبالأسلوب إلى أنّ النحو بإمكاناته الواسعة يتيح لكلّ منشئ قدراً من التميز الدال على خصوصية نظمه، إذْ الألفاظ في ذاتها لا ينجم عن استعمالها فضلٌ للقائل، لأنّها لا تختص بأحد دون آخر، وإنّما تكون الخصوصية في النّظم والتركيب.

إنّ الألفاظ عند عبد القاهر ما هي إلا رموز للمعاني، لهذا فهي لا تكتسب صفة الفصاحة في ذاتها، لأنّ الفصاحة عنده سمة للمتكلم دون واضع اللغة، والمتكلم ليس بمقدوره أن يزيد من عنده باللفظ شيئاً غير موجود في اللغة؛ فإنْ فِعل ذلك خرج على اللغة، وعليه لا يكون المتكلم متكلماً إلا إذا استعمل اللغة على ما وضعت لـه، وفي ذلك دلالة عنده أنّ الفصاحة لا تتصل باللفظ بمثل اتصالها بالتركيب، وقد ضرب على ذلك مثالاً بقوله: "فإذا قلت في لفظ "اشتعل" من قولـه تعالى: واشتعل الرأس شيباً إنّها في أعلى مرتبة من الفصاحة لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولاً بها الرأس معرفاً بالألف واللام ومقرونا إليه الشيب منكراً منصوباً، وإدراكه خاصية الأسلوب في ضوء النحو على هذه الجهة من الدّقة والشمول جعله يلتقي مع علماء اللّغة المحدثين في أكثر من موضع.

وكما أنّ ثمّة ارتباطاً قوياً بين النحو والنظم من جهةٍ، وبينهما وبين الأسلوب من جهة ثانية، فهنالك علاقة عضوية بين الأسلوب والبلاغة عند عبد القاهر، تبدو لنا من خلال اهتمامه بالمعنى والدلالة والغرض والمجاز من استعارة وكناية وتمثيل، إذ الدلالة لا يبعث عليها الكلام العادي، وإنّما يكون الباعث عليها المجاز