الفصل الثالث
التخطي الأسلوبي - محور التجاوزی فی شعر المتنبی نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
الخصومة وتتبع العيوب لأسباب شخصية، وبالمقابل ظهرت مؤلفات أخرى تعرضت للمتنبي كانت أكثر إنصافاً، ذلك لأنّها وضعت عيوب المتنبي بإزاء محاسنه ككتاب البديعي "الصبح المنبي" وكتاب الثعالبي "المتنبي ما لـه وما عليه"، إذ حاولت هذه الكتب وأشباهها تقديم صورة للمتنبي ولشعره موسومة بشيء من الموضوعية والحياد.
وخلاصة القول: كان المتنبي في شخصيته وشعره يمثل حالاً فريدة في تاريخ العربية، فالمتأمل تفاصيل حياته يجد أن الرجل كان صاحب موقف، لهذا ضن بفنه إلا على من يستحقه من أعلام عصره الذين رأى فيهم الرجولة والبطولة والإباء، وعلى كثرة من وقع في دربه من السادة الذين لم يرَ فيهم قرناء لذاته ومرمى لإبداعه، فتعالى عنهم، مع ما كانوا يرصدون لـه من أموال ومتاع لاسترضائه، غير أنه لم يكن طامعاً بالعطاء، بمقدار ما كان يطمع بالشرف والمجد والزعامة والعزة، وقد نال من كل ذلك ما يحمل النفس على قدر كاف من القناعة والقبول والرضا، غير أن نفساً لا تعرف القناعة والرضا قد سكنت لحمه وعظمه، فقطع الحياة شامخاً متعالياً، لا تشده قوة إلى القبول بما كان قد قسمه لـه المليك، فظل يساوره طموح الرئاسة والزعامة، فلا يرى فيمن تولاها خيراً لها من ذاته، لكنه لم يبلغها بعد أن أسرف في طلبها، وكان ذلك الطموح يعود عليه بكثير من الشرور، فاستعداه من استعداه، وأحبه من أحبه، وقد ربحت العربية من تلك الحياة الغامرة والنفس الأبية والطموح الذي لا يحد فناً لا تفنيه الأيام، فها هو ذا شعره يزداد شباباً مع تقادم الأزمنة، وهاهي ذي شخصيته تزداد بريقاً كلما تداعت الأيام، ولعل أهم ما نجم عن المتنبي وشعره تلك المعركة النقدية التي دارت حوله، وأوضحها الكتب التي تتبعت سرقاته، غير أن تلك الكتب كما لاحظنا لم تتحلَ ولو بقدر ضئيل من الموضوعية، وإنما انحلت عن أسباب شخصية، فكانت ترصد صراعات دارت بين المتنبي وخصومه، ولعل الطريف في الأمر أن مشجعي التأليف في هذا الباب كانوا من الوزراء كالمهلبي وابن حنزابة والصاحب بن عباد، وكانت دوافعهم إلى تأليب النقاد لتتبع سرقات المتنبي واحدة، إذ كانوا جميعاً يطمعون في مديح أبي الطيب، لكنهم لم يظفروا بشيء من أشعاره، فاستعدوه وحرضوا الأدباء على النيل منه، ولكن المؤلفات التي أنجزت في سرقاته سرعان ما انكشف عوارها، وتبين الناس دوافعها، فكانت من العوامل التي ضاعفت من شهرة المتنبي، ولهذا نقول إن البحث النقدي لم يستفد كثيراً من تلك المؤلفات، فبقيت صورة من صور الخصومة والنزاع الشخصي. والمهم في هذا المبحث النقدي أن إكراه القراءة لا يؤثر سلباً في النص الجيد إن توافرت لـه عوامل الصمود، بل على العكس تماماً قد تسعف بصقله وبيان ما ينطوي عليه من قوة وشفافية، وأظن أن نصوص المتنبي التي تعرضت إلى القراءة الجائرة قد نالها حظ من الشهرة، فلولا تناولها بطريق النقاد المنافسين أو الخصوم لما اشتهرت، حتى لكأن النقد المغرض قد ألحق شواهده العادية بشواهده المشهورة في تفردها ليكون المتنبي في النهاية من أكثر شعراء العربية حظوة في جيده? ورديئه.
الفصل الثالث التخطي الأسلوبي
1 ـــ الأسلوب ومقتضيات التجاوز
راودت فكرةُ الأسلوب ووجوه الأداء الكلامي أذهان المفسرين والبلاغيين والنقاد منذ القرن الثالث الهجري، وقد استأثر موضوع الإعجاز القرآني باهتمامهم البالغ، فانصرفوا إلى تحديد وجوهه وتجلياته في القرآن الكريم، على اعتبار الإعجاز متصلاً بالجانب البياني أساساً، وكان ابن قتيبة الدينوري (276 هـ) قد لاحظ أنّ دراسة الأساليب الكلامية في لغة العرب ضرورة لفهم الأسلوب القرآني، فلفت النظر إلى أهمية دراسة تلك الأساليب بوصفها أداة لفهم فكرة الإعجاز التي ينطوي عليها الأسلوب القرآني فقال: "إنّما يعرف فضل القرآن مَنْ كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب". أما الباقلاني قد رأى ذلك في نصين شعريين: أحدهما لامرئ القيس بوصفه من القدماء المجودين في الشعر، وقد سبق الناس إلى أشياء ابتدعها، والآخر للبحتري وهو من أصحاب الديباجة في الشعر، وكان يسمي بعض شعره سلاسل الذهب. مشيراً وهو يعرض هذين النموذجين إلى أهم ملامحهما البنائية في الابتداء والتخلص والانتهاء وتوالي