2 ـــ التجاوز على مستوى اللغة
تعقّب الشُّراحُ والمفسرون وأصحاب اللّغة المتنبي، محاولين ضبط المواضع التي تمثل خروجاً سافراً على اللغة، وقد قيدوا شواهدَ كثيرةً تدلّ على عدو لـه المقصود عن النّسق اللغوي، وهنالك من التمس العذر لأبي الطيب في هذا الصنيع، كما أنّ نفراً منهم أدخل تجاوزاته في باب الضرائر التي تجوّز للشاعر ما لا يجوز لغيره، والواقع أنّ هذه الظاهرة لا تتصل بالمتنبي وحده مع بروزها في شعره بروزاً واضحاً لكثرة من اهتم بشعره نقداً ودرساً وتحليلاً، فالخلاف الناجم عن استخدام اللغة فنياً قديم، وهو في الوقت نفسه متجدد سرعان ما يظهر مع المواهب الفريدة والطاقات الإبداعية الهائلة، فالفرزدق قديماً كان يعاني هذه المشكلة، فكان أصحاب اللغة ينشغلون بالتفتيش عن مواضع اختراقاته اللغة في شعره، وقد ضاق ذرعاً بهم فقال: "عليّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا". وهذه الكلمة عظيمة الدلالة على مسوغات التجاوز ولا سيما أن الشاعر يعمل على الدوام على مقارعة الصيغ والأشكال اللغوية ليعبّر عن حالة فريدة في كمٍ هائل من المتشابهات، وعليه فإن التجاوز اللغوي لـه من المسوغات ما يجسد تطلعات الشاعر إلى كلّ ما هو فريد، وهذه التجاوزات من شأنها أن تُحدث انكسارات على صعيد الأسلوب، وتكون من ثم علامات فارقة تدل على الشاعر، ولم يتسنّ لكلّ من قال شعراً أن يُكره اللّغة لتخرج عن طبيعتها، وإنما كان ذلك دأب المبدعين الذين يحاولون العودة باللّغة إلى المطلق، فاللغّة كانت في الأصل أي قبل أن تقيّد المعجمات دلالاتها حرّة أو غير محددة، فجاءت القواعد لتضعها في إسار، وفي نسق من الاستعمال المحدد، والشاعر المتفرّد لا يعترف بمحدودية اللغة، وهذا ما يفسر نزوع المتنبي وغيره إلى التجاوز، وربما كانت تجاوزات المتنبي تمثل ظاهرة واسعة في الشعر العربي، ومن ثم فإنّ قابلية الإبداع وفق هذا التصور الذي جرت فيه انحرافاته اللغوية تجسد رغبة في التميز.3 ـــ العدول عن السماع
ثمّة أمثلة في شعر المتنبي تثبت أنّه عمد إلى القياس في بعض الشواهد، فاخترق بذلك القاعدة القائمة على السماع، فاستعماله بعض الألفاظ على جهة القياس دفع بعض أصحاب اللغة إلى استنكار صنيعه، وبذلك سجل أول انحراف لم يهتد إليه المعنيون بدراسة الأساليب الشعرية، فالمعروف في هذا المجال أن مستعمل اللغة يخترق القاعدة ويحطّم العرف، ويجوز المعهود، فهذا هو مجال التجاوز والانزياح في الواقع، أما إذا كان الاستخدام قد مضى وفق المنطق والقياس فهذا بطبيعة الحال أمر لا يخلو من طرافة، والمثال الدال على ذلك الضرب من التجاوز يصوّره قوله:
أُرُوضُ الناس من تُربٍ وخوف
وأرض أبي شجاع من أمان
وأرض أبي شجاع من أمان
وأرض أبي شجاع من أمان