إنّ الإبداع بعامة محكوم بفكرة القصد والإنجاز، فالأديب عادةً يخضع لضرورات فنية تستحكم فيما يريد تبلغيه للآخر. إنه بكلمة أخرى يحار في التوصيل، ويخشى من خداع الوسائل، وهو لا يعاني في الحقيقة حين يصمم أهدافه، ولا يُقهر حين يصوغ أفكاره؛ لأنّ كلّ ذلك يُنجز ذهنياً، وهو ما نصطلح عليه بالفكرة التي تتجسد في مادة القول فيما بعد، وهذه الفكرة بمعنى نقدي هي ما يريد المؤلف قوله، غير أنّ ذلك لا يمكن أن يتوشح بالقالب الجميل المؤثر الذي يجذب السامع دون قدرة فنية فريدة من شأنها أن تضع الغاية أو القصد في الإطار المناسب. والمبدعون يعانون عادة وهم يختارون القوالب الفنية لتبلغ بهم الغايات التي يرمون توصيلها إلى المتلقي، ومن شأن الأديب الذي ينزع إلى التفرد في التعبير عن مقاصده مواجهة الإحساس المستمر بأنّ اللغة لا تستطيع أن تنهض بمعانيه وتفي بمقاصده، إنّها بمعنى آخر عاجزة عن الوفاء بحاجاته الإبداعية، أو أنّ مَنْ تقدمه استنفد العبارات الفنية فلم يبق لـه سهم في السبق والتفرد، إذ هو مسبوق إلى كل كلمة قبل أن يحملها أدنى معنى، وقد قيل في هذا السياق: لم يترك السابق للمتأخر معنى، فإذا كانت المعاني التي تتوسع بتقدم الأزمنة قد نفدت، فماذا يقال عن الصيغ والمفردات المحدودة؟ هل يمكن أن تتسع على الدوام لخطرات الوجدان وومضات أفكار المبدعين؟إذن الصراع متولد من الإحساس إزاء قصور اللّغة، ومع ذلك لا محيص للأديب إلا أن يقول ما يريده من خلال إمكانات اللّغة المحدودة، ثم يتولد صراع آخر بين ما يريد الأديب قوله وما قاله بالفعل، وعليه يتضاعف الإحساس بعقم النتاجات الأدبية التي ترضى بكلّ ما هو معاد على مستوى اللّغة وعلى مستوى الدّلالة، في حين ينزع المتميزون إلى التخطي والتطاول على الأعراف في محاولة للتعبير عن خصوصيتهم في مجالات متعددة.
2 ــ مشكلة التوصيل
هنالك فرقٌ حدده المهتمون بدراسة الخطاب الأدبي بين علم الدّلالة والسيمياء، فقالوا: "علم الدّلالة هو الذي يبحث في البناء التركيبي للجملة لبيان مقاصد المتكلم، ويكشف عن المعنى الذي ينطوي عليه الكلام"، أمّا السيمياء فهي علم دراسة العلامات (الإشارات) دراسة منظمة"، ويشّف هذا الفارق عن معرفة عميقة بالنّسق المعرفي الناجم عن فهم طبيعة التخاطب نفسه، إذ هنالك خلط واضح بين المفهومين عند كثير ممن يعمل في حقل الدراسات الأدبية واللّغوية، ولا سيما حين يعدون اللّغة ذات طابع إشاري فحسب، فتغدو لذلك موضوعاً للسيمياء. والواقع أنّ اللّغة بيانية إلى درجة يتعطل فيها الجانب الإشاري إلى أقصى ما يعنيه التعطيل المقصود بالسيمياء أحياناً، فاللّغة التي هي أداة تخاطب رمزي أو صريح لا تلعب دوراً إشاريّاً بالضرورة، لأنّ المنطوق عادة لـه مؤدى بياني، وغاية المتكلم الإفصاح مهما تعرض الملفوظ إلى إكراهات وضغوطات بلاغية لحذف مجمل الكلمات التي من شأنها أن تقهر عنصر الإيجاز، لتصهر القول في قالب موجز أو تلونه بضروب من الاختصار والحذف والتكثيف والترميز لسبب بسيط هو أنّ الفهم الذي ينجم عن التخاطب اللّغوي