4 ـــ الزمن والإبداع
إن الإبداع علامة دالة على حياة الجماعات,وليس بالمستطاع القول إن حياة تنتظم وفق سنن الكون, وتأخذ نصيباً من التطور يمكن أن تستمر من دون خلق وإبداع, والأمة التي تنعدم لديها إمكانية الإبداع موجودة غير حية, والإبداع في أبسط صوره تغيير النمط المتبع في المعيشة والسلوك والتفكير والتعبير. والفن منذ أن وعى الإنسان ذاته كان مجالاً للخلق ووسيلة للتوازن, ومع الإحساس بسطوة الزمان وجدت الرغبة المتعلقة بالإبداع, فكان الإنسان الذي واجه الإحساس بالزوال قد توسل منذ الأزل بالفن لحفظ ذكراه في الوجود. ومع التطور المستمر في الخلق غدا الهاجس لدى المبدعين متمثلاً بالتميز ليس غير, من أجل ذلك ندرك أن المتنبي في تعبيره عن ذاته كان مشدوداً إلى التميز الشعري بكل طاقته, والتميز الذي نعنيه هنا مجاوزته ما كان جارياً في طباع الشعراء السابقين على صعد مختلفة, أظهرها ما كان يبديه من وعي بدقائق الصناعة الشعرية التي انتهت إليه, ومن ثم أضحى من الميسور أن يشتق طريقة مميزة للخلق على أساس التفرد والمجاوزة, يقول:
وجاهلٍ مدَّهُ في جهله ضَحِكي
إذا نظرتَ نيوبَ اللَّيثِ بارزةً
ومهجةٍ مُهْجَتي مِنْ همِّ صاحبها
رِجلاهُ في الرَّكضِ رجلٌ واليدانِ يدُ
ومرهفٍ سرتُ بين الجحفلين به
فالخيلُ واللّيلُ والبيداءُ تعرفني
صَحِبْتُ في الفلواتِ الوحشَ منفرداً
يا من يعزُّ علينا أن نفارقَهُمْ
وجدَنُنَا كُل شيءٍ بعدكم عدمُ
حتَّى أتتهُ يَدٌ فرَّاسَةٌ وفمُ
فلا تظنّنَّ أنَّ اللّيثَ يبتسمُ
أدركتُهَا بجوادِ ظهُرهُ حَرَمُ
وفعْلُهُ ما تريدُ الكفُّ والقدمُ
حتَّى ضربتُ وموج الموت يلتطمُ
والسّيفُ والرُّمحُ والقِرْطَاسُ والقلمُ
حتَّى تعجَّب منِّي القُورُ والأكَمُ
وجدَنُنَا كُل شيءٍ بعدكم عدمُ
وجدَنُنَا كُل شيءٍ بعدكم عدمُ