لم يكن التكرار هنا لازماً لتقوية جانب الخطاب، وإنما جاء ضرورة لضبط الإيقاع فتحول إلى عنصر يفيد التوازن بين الأبيات كما هو الشأن في البيت الثالث حين عبرت فيه كلمة (سار) في الصدر والعجز عن تجاوب موسيقي واضح رُدَّ فيه العجز على الصدر بصورة تشي بأن الدفقة الشعورية الواردة في الشطر الثاني منوطة بدفقة مماثلة في الشطر الأول لتطفح من خلال ذلك الإحساسات المترعة بالإيقاع الصوتي الذي يحيل على إيقاع لوني تشي به الصور البصرية المتتابعة في عموم النص، ثم يأتي الجناس ليثبت الجانب الإيقاعي متضافراً مع القافية لتسبح القصيدة بكاملها في بحر من الطاقات الصوتية المتناظرة.
التدرج:
كان من أثر انشغال المتنبي بالفكرة وضوحُ الجانب الحكمي في شعره عامة، وكان الحاتمي قد صنف رسالة أحصى فيها من معاني المتنبي الشعرية ما وافق فيه كلام أرسطو، والمسألة المهمة في هذا الموضوع أنه وإن كانت هناك صلة بين معاني المتنبي وأفكار أرسطو، إلا أن الفارق الأساسي الذي يمكن أن ندركه هنا أن المعاني والأفكار عند المتنبي مصبوغة بأصباغ الشعر قبل كل شيء، بمعنى أن إغراقه في الحكمة لم يلغ الجانب الشعري عنده، أو أن المعاني الحكمية عنده إنما تلوح خلف وشاح فني دائماً، من أجل ذلك لم تتحول القصيدة عنده إلى متون فلسفية، وهذا وإن دل على مهارته الفنية التي مكنته من صهر الأمثولة أو الحكمة في قالب شعري إلا أنه انزياح واضح عن نسق سحيق جرت في أثنائه قصائد العرب في سياقات بعيدة عن الفلسفة وعن الفكر عبر تاريخها المتقدم، ولما جاء أبو الطيب وربما كان أبو تمام قد مهد لـه هذه الطريق، أوجد لقاء بين الفلسفة والشعر.
من أجل ذلك اكتسبت القصيدة عامة في شعر المتنبي صفة التدرج والتتابع حيث تواردت معانيه وأفكاره على جانب مذهل من الترتيب، فليس لديه قفزات غير مسوغة في عموم شعره، بل هنالك تدرج انساقت فيه المعاني والأفكار على نحو ينم على تنظيم فكره وسعة عقله وثقافة واسعة يقول ^(^^):