من كرم الطباع وقوة الشكيمة وشدة البأس, وهاهو ذا يشخّص الدّهر بصورة فارس فينازلـه وجهاً لوجه, وليس معه سلاح سوى الصبر فيغلبه ويظفر بسلامته يقول:
هذه الأبيات من عجائب أبي الطيب؛ لانطوائها على مواطن الصلابة في شعره, وقد بدا ذلك من خلال التصاوير المتتابعة التي تفضي إلى شعرية تنجم عن تثبيت العلاقات المجازية, وقلما تترى تلك الصور بمثل هذا التتابع الغريب حيث تشتد لحمة الكلام لتنتقل المعاني من قوي باهر إلى عجيب مدهش, وقد يكون المتنبي قد تعقب بعض الشعراء السابقين فاستأنس ببعض معانيهم في هذا الباب إلا أن هذا السياق الشعري الصلب لا يكون إلا للمتنبي, وعليه تبرز طوابع الذات التي تعلو كل شيء هنا, والكلام الذي أورده في وصف نفسه وعزمه دونه كل مدح, لقد كان الدهر فارساً, وهو قد نصب نفسه فارساً آخر, ومن فرط فروسيته واجهه وليس معه سوى الصبر, فقال: (وحيداً), وقد لامه الشّراح على ذلك لأنّه ومعه الصبر أي ليس بوحيد, والمتنبي لا يقصد أن الصبر سلاح, لأن الصبر ليس شيئاً غير ذاته, فهو والصبر شيء واحد لذا فهو أمام مطاعنة الدهر وحيد بالفعل.
إن المتنبي قد اعتاد على مقارعة الخطوب حتى بلغ من أمر نفسه ما يحملها على التساؤل: أمات الموت أم ذعر الذعر؟
والحق أنّ مخلوقاً لا يقدم إقدامه إلا إذا كانت لديه مهجة ثانية, أو أنه يريد أن يلقي بنفسه في الهلاك ليثأر منها, وهذه كلها تساؤلات تنبعث من جراء مواجهة لا تنجز إلا شعرياً, والسلاح الحقيقي الذي يتسلح به المتنبي هنا إنما هو الخيال ليس غير, ومن عجب أن يخترق المتنبي خيالاته التي تجعل من اللغة ميداناً تسبح فيه شاعريته, ليرجع بقوة إلى المعنى الحكمي الذي استطاع أن ينهي به الموقف ليقول:
إنّ الصورة الموصوفة للدهر في شعر المتنبي آنفاً, متصلة بوعيه المفهوم, وفهمه الرمز الذي يتوشح به الكلام, ومن ثم فإن ذلك عنده لا يكشف عن مغزى ذي شأن, لأنه في واقع الحال يبرز موقفاً واضحاً أو معلناً, من أجل ذلك نقول إن الزمن في تلك الشواهد هو الدهر أو الموت؛ لأن المتنبي وغيره فهموا هذه الدلالة فانعكست في نتاجاتهم بوعي ووضوح, وهذه الصورة في الحقيقة ليست شاملة للزّمن الذي يتجسد بالإحساس وينبعث من جراء الانفعال فحسب, بل يجري الزمن في النص بمسارين أو هو في الواقع زمنان: الزمن النفسي الذي يفهم منه الشاعر أنه قوة خفية تدنيه من الأجل, وقد عبر المتنبي عن ذلك الإحساس بصورة شعرية, والزمن الذي يتسلل عبر كلمات القصيدة ليعبر عن ذاته على غفلة من الشاعر, لأنه كامن في قلب اللغة, ويظهر في أنساق الكلام دون أن يشعر القائل به, فالشعر عامة صورة زمانية, تجسد الزمن الذي قيلت فيه, وهذا الزمن لا يحسب القائل حسابه لأنه محقق موضوعياً, أما الزمن النفسي فينجزه النص دون قصد, وهذا هو المهم في المسألة, لأن الزمن الذي لا يستطيع الشاعر تشخيصه في صورة ما هو الزمن الذي يحكم ترتيب الخطاب ويحدد وظيفة اللغة ويكسب النص الحركية التي تشعرنا بأن النص يتحرك والحياة تتوثب, والعناصر تنتقل من طور إلى طور, أقصد الزمن الذي يستحكم بمجريات القول في القصيدة, يقول: