من الواضح أن هذا الشاهد يجسد الزمن ببعديه النفسي والموضوعي, بمعنى أن العيد الذي بدأت به القصيدة فيه إشارة إلى زمن متكرر, بحسب المعنى اللغوي إذ كل ما اعتادك هو عيد, وهو زمن موضوعي بطبيعة الحال, غير أن مجريات الزمن الموضوعي لا تتطابق مع متطلبات الذات, فينتفي الزمن في النفس مع تحققه في الواقع, والمتنبي يشير إلى مثل هذا, لأنه يسلخ عن العيد وهو زمن موضوعي الصفة النفسية التي لا تعترف بقدوم الزمن مع تحققه, فيقول: (بأية حال عدت), ومع تشكيك الشاعر بما ينطوي عليه العيد من جديد, فإن الزمن النفسي لا يتوقف, وإنما يجري جنباً إلى جنب مع الزمن الموضوعي ولكن بغير لحمة, وهذا مبعث الاغتراب في النص.
إن من لوازم العيد الاجتماع بالأحبة كما يقول المتنبي, لا بل إن ذلك الاجتماع هو ما يجعل من العيد عيداً, أي من الناحية النفسية, وعليه لا عيد إلا بالاجتماع مع أحبته, وهنا يتوقف الزمن ببعديه, أو أن الإحساس به يتلاشى طالما أن الحبيب مفقود, ولا سبيل للتسلي بالخمرة أو الغناء أو غير ذلك من المسليات.
المتنبي هنا قد سُلبت مباهجه, والذي جرده من لحظات السعادة هو الدهر. فليس بين جوانحه شعور يربطه بالحياة والحب, ومع ذلك لم يتوقف الزمن ولم يتلاشَ الإحساس بالاستمرار, والنص يعترف بهزيمة الشاعر أمام الدهر مع استمراره في الوجود, فرحلته في العالم إنما كانت من أجل المعالي, مع افتقاده للحب وللسعادة, ومع مقارعته خطوب الدهر على الدوام, وهذه المواجهة التي يجسدها النص هي مجابهة مجازية في الأساس لأن الدهر المتخيل هنا دهر مجازي يخاصم ويهاجم ويغالب ويضمر الغدر والضغينة, ويتقصد الشاعر بالظلم والحرمان.
وكذا الاستمرار في الحياة مجازي هنا؛ لأن النص هو الذي لا يزال باقياً, والمتنبي الذي صاغ ذلك الخطاب موجود في بنيته النصية ليس إلا, فنحن حين نقرأ النص نتمثل ذكرى الشاعر ليس غير, والزمان لا يزال باقياً بكل تفصيلاته لأنه متجسد في مادة القول وحاضر في المعنى, وكان المتنبي يتوهم حضوره, ويتوهم حتى وجوده, ونحن الآن ندرك على وجه اليقين أن الزمن متحقق تماماً. إننا نعي أن المتنبي كان محقاً في خوفه من الدهر ومن ثم نعذره في مواجهته, ونعي أيضاً على وجه من اليقين أن الدهر قد فعل فعلته فغلب المتنبي لكنه لم يغلب إبداع المتنبي, بدليل أن الدهر والنص من البواقي, والجانب الخالد الذي حمل ذكرى المتنبي هنا هو الفن أي النص الشعري الذي كتب لـه الخلود والبقاء.