الفائض الذي يتركز في ناحية من الشاهد، وليس ببعيد أنه عمد إلى إقصائه ليثبت الشبهة التي تشي بإلغاء التفرد أو الخاص الذي يريد المتنبي ملامسته من خلال عدوله عن النسق المألوف، من أجل ذلك كان ينتزع مفردة من منظوم أو بيتاُ من قطعة حتى يظهر المتنبي للمتلقي أنّه في هذا الموضع قد تجنب الصواب ووقع في المحظور، إضافة لإظهاره سارقاً من النّمري أو غيره لأنّه كشف طرفاً من كلمته قد صادفت شبهاً بكلام السابقين، وفي ذلك جور واضح، والنقد الحديث لا يعنيه أن يقيم الحكم على الشواهد المفردة ما دام يقلب النظر في المقاصد ويسترد ما هدر من المعاني الفائضة في النصوص التي كانت مدار تساؤل وخلاف على الدوام.
إنّ العدول الدلالي في شعر المتنبي باب واسع جداً، ولعل في الأمثلة القليلة التي نضربها هنا ما يغني عن الإحصاء، وهدفنا من الانتقاء تسليط الضوء على ما هو بارز لتأكيد سرّ تفرد المتنبي، من أجل ذلك كانت المعاني المحدثة في شعره شواهد حاضرة على الدوام لتبيان ما انطوى عليه شعره بعامة من تميز، فشعره عامة ينم على مقدرة بالغة في التوليد، كما أنّ لديه طاقة لا تحد لتأسيس المعنى الذي وإن وجد شبيهاً عند متقدميه إلا أنّه قد تعلق به وصار من الرّسوم الفنية والموضوعية التي أوجدها بالصورة التي نقرأها في قوله :
نطلع من خلال هذا الشاهد على المعنى المُحدث الذي تشي به سائر الدلالات المتناسقة إلى الدّرجة التي تُظهر أنّ المتنبي لا يروم الإتيان بمعنى فريد مفرد، وإنّما هنالك سياق تتركز فيه جملة من الدلالات التي تشي بالتفرد، والسبيل لبلوغ هذه الغاية واحدة عنده وهو تجاوز المحدود إلى اللامحدود، والخروج من الضيق إلى المتسع، ومن الخاص إلى العام، ثم نلحظ حركة ارتدادية تنبثق من النسق ذاته لتقلب المفاهيم المعروفة لهذا المعنى أو ذاك، وهذه مسألة تخاطبية تريد إيجاد رصيد معنوي لدى المتلقي قبل كلّ شيء، فإذا أردنا تحديد المعاني جرت بنا الدلالات إلى المتسع، وإذا رمنا الحصر انفلتت منا المعاني إلى الشمول، إنها سلسلة لا تتناهى من الدّلالات الخارجة أصلاً عن التقييد، من أجل ذلك يصعب أن نصوغ مطلبنا من النّص بسؤال مفرد، فالنّص لا يعترف بما نمتلك من أفق توقع، وإنّما يجيب عن تساؤلاتنا بإجابات ليست متوقعة، لهذا لابد من وضع قناعاتنا إزاء تفرده موضع تعديل على الدوام، وهذا بالضبط ما يريد النص توصيله إلينا، إننا لا نعرف كيف نصنف العبقرية الفذة التي تتجلى من خلال شواهد أبي الطيب الجميلة، لأنّ كل شاهد يعبّر عن لحظة إبداعية مختلفة عن غيرها، ومتميزة من نظائرها، إذْ هنالك لمحات نطولها من خلال كلّ ذلك، إنّها لمحات تزفّ إلينا شعوراً بالجمال الرائع وكفى. فلنعد إلى موقف الغزل في الشاهد السابق الذي يمثل انحرافاً واضحاً عن أنساق التعبير في هذا الموضوع، إذ تبدأ مسافة الانحراف بالتشكل مع الاستعمال المجازي للّغة في قوله (ضياء) وفعله (ضاءَ) فقد أراد المصدر لا الفعل، وهذا الاختيار ليس عبثياً ولا سيما حين نعلم أن الضياء لا يكون إلا للشمس، لقوله تعالى *هو الذي جعل الشّمس ضياءً والقمر نوراً* وأراد هنا أن يعقد صلة بين ضياء الشمس وبياض الحسناء، لأن البياض ضياء في الواقع، واختياره الضياء بدلاً من النور يوجه الفهم إلى الصورة الباهرة التي أراد فيها أن يجعل الحسناء، شمساً وليس قمراً، وهذا ما يدل عليه قوله في البيت الثاني (وهي ذكاء) بكل ما يوحي إليه هذا التركيب من مبالغة، في محاولة لتأسيس انزياح بصورة شاملة لم يتقبلها بعض النقاد من النابغة