وهو نصر إسلامي أيضاً:
وكذلك لم يكن المتنبي يتحدث عن البطل بلسانه هو, وإنما تحدث بلسان الجماعة التي أحست بالظفر من جراء الصنائع العظيمة التي اختطتها يد قائد نادر كسيف الدولة, وعلى هذا النحو لم تصور القصيدة عواطف الفرد بقدر تصويرها عواطف الجماعة, ولم تعبر عن انفعال شخصي إزاء إنجازات سيف الدولة. الكبار, بقدر التعبير عن انفعالات الجماعة بهذا النصر العظيم, من أجل ذلك كله نقول إن القصيدة ذات نفس ملحمي واضح, لأنها تؤرخ الأحداث العنيفة التي هزت الأمة مستهدفة وجودها بطريق الفن, وهذا ما يخرجها من دائرة المدائح الشعرية التي تنجم عن إعجاب الشاعر الشخصي بالممدوح إلى إطار واسع يلامس الإطار الملحمي الذي يخلد انتصارات الأمة بصورة شعرية.
للقصيدة نظائر في الأدب العباسي, فلهذا نظن أن المتنبي قد احتذى على أسلوب أبي تمام في قصيدته التي تكلم فيها على موقعة عمورية, من الجهة التي تبرز اعتماده في فاتحة قصيدته على الحكمة, إذ بدأت القصيدتان بمقدمة حكمية موصولة بالحدث الذي عالجته كل منهما, ثم اتفقتا في الأسلوب أيضاً حيث وقف أبو تمام عند تصوير أحوال المنتصرين والمنهزمين على حدّ سواء, كذلك أبرز أبو تمام تشفيه مما أصاب عمورية, وهي الصورة نفسها التي انطوت عليها قصيدة المتنبي, حيث يصف عمورية بعدما خربها المعتصم بقوله:
فمنظر الخراب الذي لحق بعمورية كان منظراً بهياً بعين المنتصر, ويكاد يكون أكثر بهاءً من الربوع التي كانت تجول فيها مية التي تغزل بها ذو الرمة, وكذلك كانت رؤية عمورية بعدما عفّرها المعتصم بالتراب, أحب إليه من منظر الخدود التي أدماها الخجل, وهذه الصورة التي رآها الظافر بالطبع, أما الرومي الذي اندحر فلم ير فيها ما كان رآه أبو تمام.
وكما أن المتنبي في هذه القصيدة قد حوّل نصر سيف الدولة إلى نصر ديني وقومي, كان أبو تمام أيضاً يرى في ظفر المعتصم نصراً للدين وللعرب:
وأما صورة المعتصم بوصفه البطل الذي قاد العرب إلى النصر في هذه المعركة, فقد تخطى في قوته الطاقة الإنسانية ليتحول إلى أسطورة كما حول المتنبي بطله إلى أسطورة أيضاً يقول أبو تمام:
وأخيراً ركب الشاعران في قصيدتيهما أسلوب التضاد, وعبّرا عن عواطف الجماعة, وأرخا الأحداث الكبار التي ظفرت بها الأمة بطريق الفن, فخرجت هاتان القصيدتان عن إطار الأدب الفردي إلى الأدب الجماعي الذي يعبر عن نفسه تعبيراً ملحمياً.