وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء
من الثانية َثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا
حتى يعذب الماء.
أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من
كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها،
فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى
الماء. وفي جملة المواد التىِ استعملوها
الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا
انطفأ وتحول إلى فحم، اخذ معه ما يجده من
الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا
نوعاً من الطين وسويق الحنطة.
وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط
الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على
وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو
برائحة بعض النباتات فيه أو بمراقبة حركات
الحيوان، ويقال لها: الريافة.
وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة
من جزيرة العرب عميقة جداً، ولا زال الناس
يستقون منها الماء. وهي عادية، اى قديمة
تعود إلى ما قبل الإسلام. وكانت عليها
مستوطنات تعيش على ماء هذه الابار. ولهذا
فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون
الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة
بالنسبة لهم، لأنها تمدهم وتمد إبلهم
وماشيتهم بعرق الحياة وروحها، ويدل عمقها
على مقدار ما بذله الحفارُ من جهد حتى
توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهما
البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك
العهد.
والآبار هي من مصادر الحضارة والتحضر في
جزيرة العرب، فلولاها ولولا موارد الماء
الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر
زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي
أرضن قفراً لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط
ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء
في حياة جزيرة العرب، تجد نصوص المسند
تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسمّى
منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء.
ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم
بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن
تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه،
وقد كان من واجب رجال الدين الإستسقاء،
وذلك بان يتوسلوا إلى آلهتهم بان تمن على
عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس
دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا
الاستسقاء وقّد كانت الشعوب الأخرى
تّستسقي كذلك وتستعين بالسحر في إرضاء
الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجن إليه.
وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب،
كما تحدثت عن ذلك مواضع من هذا الكتاب،
والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون
بالاستسقاء، لأنه من صميم اعمالهم
وواجباتهم.
وقَد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب
وفي جبال اليمن، لايصال القرى والمدن
بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك
الوقت في شق الطرق في المناطق الجبلية،
ءويسمونها "مسبإ"، ولا تزال آثار بعض منها
موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في
نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق
والمعبر.
وقد قام المهندسون بإصلاح الطرق.، ونجد
لفظة "درك"Derek في العبرانية بمعنى "الطريق"،
والدرك في العريية أسفل كل شيء، ومراتب
الهبوط، ولعلها في الأصل الطريق المنحدر
إلى اسفل، وأما السبيل، فالطريق، وتقابل
هذه اللفظة لفظة "شببل" في العبرانية. و،
السراط" "الصراط" الطريق الممهد المعبد،
واللفظة من الألفاظ المعربة من
اللاتينية، من أصل Strata بمعنى طريق مبلط،
وطريق كبير واضح.
النوء والتوقيت
ومعارفنا بالأنواء والتوقيت عند
الجاهليين قليلة ضحلهّ. وهي مبعثرة في كتب
اللغة والأدب وفروع المعرفة الأخرى، مثل
كتب الجغرافيا والأنواء. ولم يصل الينا شي
منها في نصوص المسند. غير إن ما نجده في
المؤلفات المذكورة على قلته وضآلته يدل
على إن الجاهليين كانوا أصحاب عناية
ودراية بالأنواء والتوقيت وانهم كانوا
على علم أو شيء من العلم بالأنواء عند
غيرهم، مثل أهل العراق أو أهل بلاد الشام.
ولعلهم كانوا على اتصال مباشر أو بالواسطة
بعلم اليونان واللاتين بالأنواء.
وعدم وصول شيء في كتابات المسند من علم
النجوم والأنواء وما يتعلق بعلم الفلك. لا
يمكن أن يكون دليلاّ بالطبع على عدم وجود
علم لأهل العربية الجنوبية الجاهليين
بالفلك، ولا يعقل ألا يكون لهم علم به. فقد
كان العرب الجنوبيون أصحاب زراعة وتجارة،