مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام

جواد علی

جلد 4 -صفحه : 456/ 76
نمايش فراداده

تلا عليهم كتاب الله منظوماً، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، فإذا كان هذا شان الخطيب، وهو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعاً ولا يكتبها على صحيفة، فهل يحوز اذن لنا التصديق بصحة نصوص هذه الخطب الجاهلية وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور !

السجع

وقد جعل "الجاحظي" كلام العرب أنماطاً، جعله "في الأشعار، والأسجاع، و ا لمزدوج، و المنثور".

والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي. وسجع يسجع سجعاً: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وقد ألفِ "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك ب "سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتاً بغرة على عاقلة الضاربة، قال رحل منهم: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان. وفي رواية: اياكم وسجع الكهان. وفي الحديث انه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء.

قال الأزهري: انما كره السجع في الكلام والدعاء.لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل". وروي الحديث على هذه الصورة: ا اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت احداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله إن دية جنينها غُرّ ة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، ففال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انما هذا من اخوان الكهان، من اجل سجعه الذي سجع".

. قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: أسجع كسجع الجاهلية. "وكان الذي كره الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئياً من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شق وسطيح، وعُز"ى سلمة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء. والعُقاب الصقعاء، وافعة ببقعاء، قهد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة،والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون.، وينفرون بالأسجاع وكذلك ربيعة بن حذار.

قالوا: فوقع النسُ في ذلك الدهرِ، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحربم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم. وقد كان الكهان حكاماً كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي اليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه، وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي ياًتي اليهم فيلقي لهم بما يراه ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من ادل بشيء قبل وقوعه.

ويفهم من روايات أهل الأخبلر ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس،فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللاخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والنزعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهناً او عرافاً فقد كفر.

ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري اذن بالدراسة وبالبحث.