مقابسات

أبی حیان التوحیدی

نسخه متنی -صفحه : 96/ 3
نمايش فراداده

وكذلك البلاغة التي قد علم صاحبها وطالبها ما ينتهي إليه، ويقف عليه، من تنميق لفظ، وتزويق غرض، وتغطية مكشوف، وتعمية معروف، وإحضار بينة، وإظهار بصيرة، واختصار آت، وتقليق بات، وتأليف شارد، وتسكين مارد، وهداية متحير، وإرشاد متسكع، وإقامة حجة، وإرادة برهان، واستعادة مزيد، وتليطف قول في عتب، وتسهيل طريق في إعتاب، وتهنئة مسرور، وتسلية مخزون، وتلهية عاشق، وتزهيد راغب، ونضح عن عرض، وحسم مادة من طمع، وقلب حال عن حال حتى تضم بها أمور منتشرة، وتندمل بها صدور منفطرة، وتتسق بها أحوال متعاندة، وتستدرك بها حسرات فائته، وتخمد نيران ملتهبة .

وكالصناعات كلها: كالهندسة في شرفها، والهيئة في علو رتبتها .

وحدود هذه العلوم بعيدة، وفوائدها جمة .

وليس هذا القدر آتياً على حقائقها، ولكنه مشير إلى موضع، المسألة والبحث عنها .

فقد وضح لكل ذي حس مقيد، وعقل متأيد، ورأي صحيح، وذكاء صريح، أن هذه العلوم كثيرة المنافع، عامة المصالح، حاضرة المرافق .

وأن الناس لو خلوا منها، وعروا عنها، لتبدد نظامهم، وانقطع قوامهم، وكانوا نهباً لكل يد، وحيارى طول الأبد .

وليس علم النجوم كذلك! فإن صاحبه وإن استقصى، وبلغ الحد الأقصى، في معرفة الكواكب وتحصيل مسيرها، واقترانها ورجوعها، ومقابلتها وتربيعها، وتثليثها وتسديسها، وضروب مزاجها في مواضعها من بروجها وأشكالها، ومقاطعها ومطالعها، ومشارقها ومغاربها، مذاهبها، حتى إذا حكم أصاب، وإذا أصاب حقق، وإذا حقق جزم، وإذا جزم حتم، فإنه لا يستطيع البتة قلب عين شيء، ولا صرف أمر إلى أمر، لا تنفير حال قد دنت، ولا نفي ملمة قد كتبت، ولا دفع سعادة قد أجمعت وأظلت .

أعني أنه لا يقدر على أن يجعل الإقامة سفراً، ولا الهزيمة ظفراً، ولا العقد حلا، ولا الإبرام نقضاً، ولا الإياس رجاء، ولا الإخفاق دركاً، ولا العدو صديقاً، ولا الولي عدواً، ولا البعيد قريباً، ولا القريب بعيداً .

وهذا باب طويل، والحديث فيه ذو شجون، وكأن العالم به، الحاذق فيه، المتناهي في حقائقه، بعد هذا التعب والنصب، وبعد هذا الكد والدأب، وبعد هذه الكلفة الشديدة، والمؤنة الغليظة، مستسلم للمقدار، ومستجد لما يأتي به الليل والنهار، وعادت حاله مع علمه الكبير، وبصيرته الناقدة، إلى حال الجاهل بهذا العلم الذي انقياده كانقياده، واعتباره كاعتباره! ولعل توكل الجاهل به أحسن من توكل العالم، ورجاءه في الخير المتوقع، والشر المتوقى، أقوى وأرسخ من رجاء هذا المدل بزيجه وحسابه، وتقويمه واصطرلابه؟ قالوا: ولهذا روى الصالحون أن الثوري لقي ما شاء الله فقال له: أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل، وأنت ترجو المشتري وأنا أرجو رب المشتري، وأنت تغدو بالاستشارة وأنا أغدو بالاستخارة، فكم بيننا؟ فقال له ما شاء الله: كثير ما بيننا؟ حالك أرجى، وأمرك أنجح وأحجى .

قال: وهذا أنو شروان، وكان من المغفلين الأفاضل، روى عنه أنه كان لا يريغ بالنجوم، فقيل له في ذلك فقال: صوابه شبيه بالحدس، وخطاؤه شديد على النفس .

هكذا ترجم وهو كما ترى .

قال: فمتى أفضى هذا الفاضل التحرير، والحاذق البصير، إلى هذا الحد والغاية، كان علمه عارياً من الثمرة، خالياً من الفائدة، حائلاً عن النتيجة، لا عائدة، ولا مرجوع؛ وأن أمراً أوله على ما قررنا، وآخره على ما ذكرنا، لحرى بأن لا يشغل الزمان به، ولا يوهب العمر له، ولا يعار الهم والكدر، ولا يعاد عليه بوجه ولا سبب .

هذا إذا كانت الأحكام صحيحة ومدركة محققة، أو مصانة ملحقة، ومعروفة محضة، ولم يكن المذهب ما زعم .

وأرباب الكلام والدين يأبون تأثير هذه الأجرام العالية، في هذه الأجسام السافلة، وينفون الوسائط والوصائل، ويدفعون الفواعل والقوابل .

فحصلت حفظك الله المسألة بعد تشذب الكلام فيها، ووعيتها جهدي من أولها إلى آخرها، بطولها وعرضها، ودخلها ومغزاها .

ولا أشك في أطراف زلت عني عند اختلاقها واقتباسها، وقد ثقفت الجواب عنها على أوجه أنا أجتهد في الأعراب عنها في هذا الموضع بمبلغ وسعى؛ فإني بين فائتة لا علم لي بها .

وبين زيادة لا يطمئن متن الكلام إلا بها، وكلتاهما خطة صعبة لو لا كلف النفس بالعلم ومحبتها للفائدة، لكان الإضراب عنها أذب عن العرض، وأصون للقدر، وأبعد من استدعاء اللائمة ممن لعله لو أتى بهذا المقدار لكان عندي عظيم المنة، حقيقاً بالشكر والمحمدة .

فأول ما قيل في ضد هذا الكلام: هذه العلوم والمعارف كلها من أثار هذه الأجرام العلوية، وسهام الخواطر السريعة والبطيئة