وقلة موادها، لافتاً للنظر ! ويتجلى ذلك :
في وصف حاجي خليفة (ت1067هـ) لكتاب أبي عبيدة (ت210هـ) في الغريب، حيث أخبر :
أنه جمع كتاباً صغيراً، ثم استدرك قائلاً :
" ولم تكن قلته لجهله بغيره، وإنما ذلك لأمرين :
أحدهما :
أن كل مبتدئ بشيء لم يُسبق إليه يكون قليلاً ثم يكثر . والآخر :
أن الناس كان فيهم
- يومئذ
- بقية ،وعندهم معرفة ؛ فلم يكن الجهل قد عمّ". ومن أجل ذلك أقول :
إن حركة التأليف في غريب القرآن، قد تطورت تطوراً كبيراً، من بدايتها، إلى عصرنا الحاضر، وسيظهر هذا واضحاً جلياً، عندما نستعرض مؤلفات غريب القرآن . ولكن السمين الحلبي (ت756هـ) لم يفطن إلى هذه الحقيقة العلمية، التي تتعلق بتفاوت نظرات أهل الغريب، إلى الغريب؛ ولذلك نجده قد أخذ على الراغب الأصفهاني (ت في حدود :
425هـ) إغفاله بعض ألفاظ الغريب القرآني، في كتابه:
(مفرادات ألفاظ القرآن) حيث قال (السمين الحلـبي) :
(قد أغفل في كتابه ألفاظاً كثيرة ؛ لم يتكلم عليها، ولا أشار في تصنيفه إليها، مع شدة الحاجة إلى معرفتها، وشرح معناها، ولغتها) ثم أورد بعض المواد التي أغفلها الأصفهاني . وأعتقد
- في ضوء ما عرفنا، من تفاوت نظرات أهل الغريب إلى الغريب
- أن ما أخذه السمين الحلبي، على الراغب الأصفهاني، ليس مأخذا يلتفت إليه ؛ لأن المسافة الزمنية بينهما، أو بين عصريهما :
طويلة، حيث تزيد على ثلاثة قرون، وهذه المسافة الزمنية :
كفيلة بتغير اللغة، والعلم بها، حتى إنه ما كان معروفا في عصر الأصفهاني ( القرن الخامس الهجري ) ولا يحتاج إلى تفسير، أضحى مجهولاً في عصر السمين ( القرن الثامن الهجري ) ويحتاج إلى تفسير !^ المبحث الثاني :
غريب القرآن وبداية المعجم العربي ارتبطت بداية المعجم العربي، بغريب القرآن، ارتباطاً وثيقاً ! فقد أوجَدَتْها :
الحاجة إلى تفسير ألفاظ قرآنية، خفيت على بعض العرب، الذين لم يكن لهم عهد بها ! ربما لأنها لم تكن من لغة قبائلهم ؛ فالقرآن عربي، ونزل بلغة العرب عامة، ولكن :
كانت فيه ألفاظ خاصة ببعض القبائل، دون بعضها الآخر ، فاحتاج الأمر :
إلى أن تُفَسّر هذه الألفاظ ؛ حتى لا يظل
- في القرآن
- لفظ غامض، على أحد من العرب المسلمين . فقد وردت أخبار، تداولها الرواة، حتى سُجّلت، ووصلت إلينا، وعرفنا منها :
أن » الصحابة
- وهم العرب العرباء، وأصحاب اللغة الفصحى، ومن نزل القرآن عليهم، وبلغتهم
- توقفوا في ألفاظ، لم يعرفوا معناها ؛ فلم يقولوا فيها شيئاً . فـ [ قد] أخرج أبو عبيد
- في الفضائل
- عن إبراهيم التيمي، أن أبا بكر الصديق * سُئل عن قوله تعالى :
* وَفَاكِهَةً وَ أَباًّ * (عبس:
31) فقال :
أي سماء تُظِلني، وأي أرض تُقِلّني، إن قلت :
في كتاب الله ما لا أعلم ؟! وأَخرَجَ عن أنَسٍ * أن عمر بن الخطاب * قرأ على المنبر:
*وَفَاكِهَةً وَأَباًّ* (عبس:
31) فقال :
هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال :
إن هذا هو الكَلَفُ يا عمر ! وأخرج
- عن طريق مجاهد
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
كنت لا أدري ما *فَاطِر السَّماوَاتِ * (فاطر:
1) حتى أتاني أعرابيان، يختصمان في بئر، فقال أحدهما :
أنا فطرتُها، يقول :
أنا ابتدأتها . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جُبير، أنه سُئل عن قوله [ تعالى] :
*وَحَنَاناً مِّن لَّدُنّاَ*(مريم:
^ 13)^ فقال:
سألت عنها ابن عباس، فلم يُجِب فيها شيئاً !« وهذا
-إن دل على شيء، فإنما
-يدل على أن هذه الألفاظ
- التي توقف أمامها، بعض كبار الصحابة *
- كانت غريبة على بيئتهم الحجازية، وإن لم تكن غريبة على بعض البيئات العربية الأخرى؛ بدليل نزولها في القرآن الكريم . ومما يؤكد هذا الأمر، ويزيده وضوحاً :
تلك الرواية، التي ذكرها القرطبي ، إسناداً إلى سعيد بن المسيب، الذي قال :
بينما عمر بن الخطاب * على المنبر، قال:
يا أيها الناس :
ما تقولون في قول الله عز وجل:
*أَو يَأخُذَهُم عَلَى تَخَوُّفٍ*^ (النحل:
47) ؟ فسكت الناس، فقال شيخ من هذيل :
هو لُغتنا يا أمير المؤمنين، التخوّف :
التنقُّص...فقال عمر * :
أتعرفُ العربُ ذلك في أشعارهم ؟ قال :
نعم، قال شاعرنا، أبو كبير الهُذَلي
- يصف ناقة تنقَّصَ السَّيْر سَنامَها، بعد تمْكه واكتنازه
تَخَوَّف الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا كما تَخوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ