وقد أدركت بماذا كان يفكر، فهاج حنانها، وامتلأت بالشعور الغريب الذي يشدها إلى الرجل، وانتشى دمها مثل وردة دثرها الضوء والندى، وفاضت رائحة الياسمين من جسدها بغزارة، وتسللت إلى روحه، فازداد انبهاره وشحوبه، وهو يرى المرأة تتطلع إليه بعينين ضاريتين، حانيتين، دافئتين، ضارعتين، ويتلجلج فيهما وهج شبق مكبوت، نفذ إلى روحه بسحر شديد الغموض، شرس.
4-قيامة اللحظة كلاهما كان صامتاً وكلاهما كان يحدق في الآخر ورائحة الياسمين تفعل فعلها في الرجل، تأسره، تخدره وتشله، والشحوب الذي يغطي وجهه يفرّخ في داخل المرأة حناناً ووجعاً، ويجذبها إليه، لكنّ ذهنها الرافض عن التخلي لحظة واحدة عن هواجسه ومخاوفه، يربكها ويوترها، ويجعلها نهباً لصراع مرير، وحيرة قاسية لا تعرف كيف الخروج منها. كانت المرأة تعيش لحظات حرجة، صعبة ومريرة، توزعت فيها ما بين مشاعرها وعقلها، فاختلطت عليها السبل والاختيارات، وأحست أنها تختنق، فلجأت إلى اللحظة ضارعة، متوسلة، مستجيرة، فنفرت إليها شرسة، ضارية، وقد انفردت من تقاويم الزمن وطقوسه، ثم مدت مخالبها إلى روحها المحاصرة، واستفردت بها، فاستجابت لها المرأة، وأقبلت عليها كاللهفة، ووجهها يرف مثل عصفور يرنو إلى الشمس، لحظة فاتكة، متمردة، لها سرعة البرق، وشراسة السيف المرهف، وسطوة السحر في الطقوس والمعتقدات القديمة، لحظة تجردت من زمانها، وخرجت عن طاعته، فكانت وحدها زمناً بحاله، أطبقت عليها، وانحفرت في عقلها وروحها كالوشم، ثم تماهت فيها، والمرأة طوع أمرها، لم تخالفها في شيء مما تفعل، كانت مسيَّرة ومسحورة، ولا تملك من أمرها شيئاً، ثم دفعتها نحو الرجل، فتداعت شجرة من حنان، ووجع، واستجارة، فتلقاها الرجل بكل ما فيه من توق، وتعب، وانبهار، فاختلط المزن بالاشتعال، والتردد بالإقبال، وعندما التحم فمه بفمها، وكفه أطبقت على نهدها وراحت تهصره بضراوة، تأوهت، فنفذ تأوهها إلى روحه، واختلط بدمه مع رائحة الياسمين. وقتها تماماً: نسي الرجل خوفه وحذره، وغادرت ذاكرته الجهات والشموس، والشوارع التي تختنق بالصهد، والمطاردات، والشرطة. وكما يحدث في الحلم رأى الغسيل المنشور على أسطح العمارات تدهمه الريح، فيروح يرف مثل طيور تود الطيران، ثم لا يلبث أن يطير محلقاً في الفضاء، والرجل ينظر إليه، دون أن يحاول الركض خلفه، أو يثير اهتمامه، وحدها المرأة كانت تمتزج بالرجل، تتسرب في دمه مع أشعة الشمس الوافدة من النافذة الصغيرة ثم تلوذ بروحه وهي تنتحب بمرارة.
نشيج الفصول الخائفة ((أنت موعود مع الغيوم الداكنة. والعذاب وقلبك تقتله الكآبة والأسى تعيش دون سقف بلا احتواء بلا ارتواء. لا تثمر سوى التشتت ومرارة الحزن والألم..)) أموهان بجاكلي نشيج الفصول الخائفة 1-نشيج المرارة. عندما راح الأرقم يرتعش من البرد والإعياء والجوع اشتاقت روحه إلى الجازية وحضنها الدافئ الذي افتقده منذ زمن طويل. في اللحظة ذاتها، كان المخفر يعبئ بواريده بالرصاص وينتظره على مفارق الطرق، ولأنَّ المخفر كان يسكن ذاكرة الأرقم، ولا يغادرها بالمرَّة، حتى حين يغفو وينام، فقد شعر بالذي يفعله، ولأنَّ بين الاثنين عداوات، وثارات، ودماً مباحاً، فقد ارتعش، ثم ارتعد من الخوف، فابتسم المخفر في داخله، وراح يوزع بنادقه على الحفر، والمغاور، والأحراش، بينما متعب العنزي يدور من حوله كالغراف، وقد داخلته المسرة. لم يرَ الأرقم ابتسامته، فقد كان كل منهما في جهة، ولم يسمعه وهو يقول: -هذه المرة يجب أن يموت الأرقم. لكن الجازية التي وقفت ما بينه وبين المخفر نخلة طالعة من جرح الروح، وهي تومئ إليه وتناديه، أشعلت شوقه وأججته حين قالت:
تعال. -قال لها: خائف. -قالت له: لا تتردد، فأنا بانتظارك. وقتها تلاشى المخفر تماماً، انشقت الأرض وابتلعته، فلم يتردد في الخروج من مخبئه، وقد فاضت روحه بالجازية غزالة لها قامة