قمر أخضر علـی شرفة سوداء

خلیل جاسم الحمیدی

نسخه متنی -صفحه : 27/ 7
نمايش فراداده

في المخفر، وتحول ليل القرية إلى نهار، من وقتها أباحوا دمه، فحمل روحه على كفه، وبدأت رحلة التيه، والخوف، والموت، والعذاب. تأوهت المرأة وهي تحتضنه فماً جائعاً وجسداً يشتعل بالحرائق والصراخ، لكنه ظل بعيداً عنها، مشدوداً بكل كيانه إلى الخارج، طوقته بذراعيها، وشدته إلى صدرها فاحّة كالأفعى وأصابعها العشرة تنغرس في ظهره قطيعاً من الخناجر، وهي تنفذ إلى روحه كالوجع اللذيذ، فيزداد عذابه وحزنه وهو يقف ضائعاً ما بين دبيب الأقدام، واشتعال الجسد المعبأ بالحرائق والفصول والضراعة، لكن الخوف الذي هطل في داخله ثلجاً أسود شلَّه وجمده، وأطفأ شوقه إلى المرأة. شدته المرأة أيضاً، ظل بعيداً وعصياً عليها، شدته ثانية، ثالثة ورابعة، ظل كل منهما في وادٍ، وبكت شجرة السرو في الخارج حزناً على المرأة، في حين ظل الليل محايداً فلم يتدخل، أو يفعل شيئاً، وحده المطر أدرك سر عذاب المرأة وحزنها، وبدون أن يتلقى أمراً، نقر زجاج النافذة بأصابعه الندية، فاستدار الرجل مذعوراً، لكنه عندما رأى المطر يقف في الخارج يبتسم لـه ويناديه، عادت إليه روحه، وقبل أن ينطق بكلمة، قال له المطر:

الجازية تحبك. -قال الرجل: وأنا أحب الجازية. -قال المطر: وهي جهتك التي لن تخونك. -قال الرجل: ملعون من يخون الجازية. وقتها تماماً مدَّ المطر يديه الاثنتين، ثم دفع الرجل بقوة نحو المرأة الضارعة، في تلك اللحظة تماماً تعكر وجه الليل، وشجرة السرو لم تتوقف عن البكاء، ومع هذا ظلا بعيدين عن بعضهما البعض، المرأة في وادٍ، والرجل في واد، مع أنَّ كلاً منهما كان يتنفس من رئة الثاني، فازداد بكاء شجرة السرو في الخارج، وخافت المرأة أن تفلت اللحظة منها وتضيع، فنهضت بكل عريها، وانحنت فوقه شجرة من ماسٍ وياقوت وثلج، وشَّاها الزغب، وقد أثقلتها ثمارها، وبرَّحها اشتعال الفصول في دمها، وهي تهجس بالذي فيها بأنين ضارعٍ:

عانقني. -إنهم يطوقون البيت.

لقد انتظرتك طويلاً. فاختبطت في دمه الكآبة، والمرارة، والنشيج، وتفاقم شعوره بالعجز، وودَّ من كل قلبه لو يخرج من ضيق اللحظة، المريبة، الشرسة، ويستجيب لأنين الفصول النائحة في دم المرأة وضراعتها. لكن الحركة المريبة التي كانت تندس في دمه صُراخاً وحشياً، كانت ترعبه، فيهبُّ خائفاً، ذاهلاً، ومذهولاً، تتشبث المرأة به كتلة من أنين ضارع:

لا تتركني. -إنهم يزحفون من كل الجهات يا امرأة. تجمد المرأة في مكانها وتصمت. وفي داخلها كانت تنتحب امرأة صغيرة وحزينة، لها عينان من خرزٍ أزرق، فمها وردة، وقلبها يشتعل بالرغبات، تخاف الليل، والمخافر، والقطط السوداء والعسكر، وتحب القهوة، والورد الأحمر، والمطر، والعصافير، والتفاح، وتحلم برجل غامض وشرس، جارح ودافئ، يأتيها من حيث لا تدري، ورائحته تسبقه كالفاحشة، يزين شعرها بالورد الأحمر، ثم يهمس في أذنها بوله المفتون: أحبك يا الجازية. تظل هي صامتة، فيزداد اشتعاله، ويهمس لها ثانية: لجسدك رائحة التفاح يا امرأة. فترتجف بين يديه مثل حمامة بللها المطر، وتلتصق به مثل روحه، فيطوقها بذراعيه، ويظل يعانقها وهي تذوب بين يديه، وتتسرب في دمه نبيذاً معتقاً، وغواية تشتهيها الروح. مدت المرأة يدها وأمسكت بيد الرجل، وعندما شدَّ على يدها، تناثر صوتها في الغرفة مثل قطع فضية ترتطم بأرضٍ صُلبة.

أحبك. -ليس أكثر مني. قال الرجل. فارتجف قلب المرأة وسقط بين يدي الرجل، فانسلت أصابعه إلى شعرها، وخيل إليها أن الرجل زرع في شعرها وردة حمراء، وأن رائحتها نفذت إلى روحها، وهمس في أذنها بوله المفتون: لجسدك رائحة التفاح يا امرأة. وقبل أن تتأكد من ذلك عانقته، ثم دفعته إلى الخارج، وصوتها الناشج يرافقه مثل روحه: كن حذراً فلن يرحموك. والمرأة الصغيرة تنتحب في داخلها بمرارة. تلفت حوله مثل ذئب شرس، كل شيء كان غارقاً بالظلمة والصمت، تحرك، كل الجهات مشت إليه ووقفت بين يديه أليفة طائعة، والأرض انفتحت أمامه مثل قلب عاشق، نهض، ظلت الجهات أليفة تقف بين يديه، وعندما ارتفعت قدمه عن الأرض، وحدها رائحة الرجال الزنخة نهضت مثل كائنات غامضة، شهق، فاختبط قلب المرأة وركض نحو الرجل يحتضنه، ومع هذا ظل الرجل مذعوراً، وارتفع النشيج في دمه كالاستغاثة، فاندفعت الرائحة الكريهة