وجهة النظر فی روایات الأصوات العربیة

محمد نجیب التلاوی

نسخه متنی -صفحه : 102/ 32
نمايش فراداده

وسمة (اللاتجانس) التي تميز رواية الأصوات عن الرواية التقليدية يمكن أن نستشهد عليها في موضوع آخر كموضوع الصراع الطبقي بين الإقطاع والفلاحين، وقد وجدنا هذه المواجهة في بناءات تقليدية لروايات نحو (الأرض) للشرقاوي و(رد قلبي) للسباعي و(ما وراء النهر) لطه حسين.. فهذه الروايات جمعت الصراع الطبقي بين الإقطاع والفلاحين إلا أن هذا الصراع بأصواته قد سعى به المؤلف لغاية أحادية ولدت فكرة واحدة بعينها، وذابت الشخوص كلها في أحد مضمارين (الإقطاع) أو (الفلاحين).. تماماً كالصراع الكلاسي بين الخير والشر.. أما رواية القعيد (الحرب في بر مصر) فهي رواية أصوات اعتمدت على المواجهة بين الفلاحين والإقطاع، ولكنها عرضت القضية من خلال أصوات متباينة الرؤى وكل صوت يتمتع بمساحة من الحرية والاستقلالية ولا ينضم لأحد الفريقين (إقطاع /فلاحون) كما في بناء الرواية التقليدية. لأن الإقرار بالوعي الغيري حقيقة بنائية لا يمكن تجاهلها في هذه الرواية. فالحدث واحد وهو: أن (مصري يؤدي الخدمة العسكرية بدلاً من ابن العمدة المدلل) ثم يعرض الحدث من وجهات نظر مختلفة، فالعمدة يحكي ويقص وينتصر لطبقته، والخفير والد (مصري) يحكي وينتصر لطبقته المظلومة، والمتعهد يحكى وينتصر لذاته ولنموذجه المزيف للحقائق، وصديق (مصري) الجندي يحكى من وجهة نظره.. إن تجاهل الإمكانات الفكرية التي تعبر عنها هذه الأصوات ومحاولة اختصارها في رؤية أحادية تمثل مواجهة طبقية أمر فيه كثير من الإجحاف وقليل من الإنصاف لـ اللاتجانس الذي تتمتع به رواية الأصوات.

ومن أجل هذا قيل إن رواية الأصوات تختلف في بنائها وتذوقها عن الرواية التقليدية لأنها تخالف علم الجمال الاستاتيكي الذي يؤكد على جمالية التجانس، أما رواية الأصوات فهي تحرص على (اللاتجانس) النابع من حقيقة واقعية.. وكأنها تحتفظ للواقع بكل متناقضاته وحركيته دونما تدخل إنساني للتوفيق أو التلفيق وتحتفظ بمساحة من الحرية لكل صوت دونما محاولات من المؤلف لتوجيه الصوت (الأصوات) نحو غاية فكرية أحادية وهي ميزة لرواية الأصوات وقدرة فنية لكاتب رواية الأصوات على الناقد أن يقدرها ويبرزها ويحافظ عليها.

اللاتجانس من أساسيات إنجاح رواية الأصوات، وكلما كانت الأصوات مختلفة في توجهاتها الفكرية وانتماءاتها الطبقية كلما ساعد على إظهار مساحة الحرية التي يتحرك فيها الصوت بوجهة نظره، ونلاحظ هذا الأمر في روايات الأصوات الناجحة مثل رباعية فتحي غانم (الرجل الذي فقد ظله) حيث أقام بناءه الروائي على أصوات غير متجانسة فكرياً وطبقياً، (خادمة/ ممثلة / رئيس تحرير/..) وفي (ميرامار) لنجيب محفوظ اعتمد على (إقطاعي جاهل /مذيع معارض للثورة /خادمة..).

وكلما اقتربت الأصوات من التجانس كلما قلت فاعلية الأصوات، ويؤثر هذا على المستوى الفني للرواية، ونلاحظ هذا في رواية (عبده جبير) -مثلاً- إذ جعل أكثر أصواته عبارة عن مجموعة من الأخوة لهم نشأة واحدة وأسرة واحدة، وأصبح اللاتجانس بينهم يكاد ينحسر في طموحاتهم المختلفة. والأمر نفسه تلاحظه أيضاً في رواية (إبراهيم عبد المجيد) (المسافات) فسكان المنطقة يتشابهون في الفقر والجهل والجنس وتعلقهم جميعاً بأمل واحد وهو عودة (قطار الكنسة).. وقد أثر هذا على البناء الفني للرواية كرواية أصوت كان ينبغي أن تعتمد عل (اللاتجانس) بشكل أساسي.

مع الرواية التقليدية كنا نمتدح قدرة الروائي على إيجاد كيان روائي متجانس يذيب التنافر والاختلاف بفعل رؤية أحادية.. لكننا في رواية الأصوات لا نبحث عن هذا التجانس، وإذا وجد فهو سيؤثر سلبياً على بناء وتكنيك رواية الأصوات. ومن ثم فلن نبحث عن الحسم الكلي حتى لا نجهض قدرات التمايز والاختلاف واللاتجانس للتعددية الصوتية.

لقد جاءت رواية الأصوات إذن لتحطيم التفكير الاستاتيكي والرؤية الموحدة التي تنطلق من المؤلف إلى بطله إلى أحداثه ليظفر المؤلف بوجهة نظره الكلية التي خطط لها سلفاً. أما في رواية الأصوات فالمؤلف بعيد عن أصواته المستقلة الأمر الذي يتيح مساحة من الحرية لمساحة من تعدد وجهات النظر والتي جاءت في رواية الأصوات وكأنها صدى لنسبية (أينشتين) حيث أصبح تعدد الأنظمة الحسابية معه أمراً مألوفاً.