ولو زاد حد المنولوج وتوظيفه فإن رواية الأصوات ستتأثر سلبياً، ولأنه من المعروف أن الروائي المعني بالمنولوج يسعى لإلقاء ظلال موضوعية على شخوصه لا سيما على وجهات النظر المخالفة لقناعاته وغايته الروائية، وهذا لا يصلح في رواية الأصوات، ثم إن زيادة الحد المنولوجي ربما تتسبب في تقليص عدد وجهات النظر وعدد الأصوات، لأن الحدث سيتعمق في بناء رأسي ينغلق دون الأصوات لا في بناء أفقي يتسع للأصوات.
وتتميز رواية الأصوات بعدم وجود بطولة فردية، والإقرار بمفهوم البطولة الجماعية للأصوات الروائية يساعد على تقليص مساحة المنولوج في رواية الأصوات، ثم إن موضوع رواية الأصوات غالباً ما يتصل بواقع متحرك متغير حتى لو كانت الأصوات متحلقة حول فكرة بعينها، فإن وجهات نظر الأصوات تمارس ردود أفعال خارجية وليس مجرد انفعالات داخلية بعمق منولوجي، لأن الفكرة بإشكاليتها ستطرح مجموعة من الأشكال الإدراكية حول قيمتها المضمونية، وتحلق الأصوات حولها بردود أفعالهم بمثابة إعادة توزيع النبرات المنولوجية، وهنا يحتكر الصوت الروائي بذاته المستويين: المنولوجي والإخباري "وكان (ديستوفيسكي) لا يعرف الكلمة الغيابية التي بإمكانها أن تبنى صورة البطل المنجزة للبناء الموضوعي دون أن تتدخل في حواره الداخلي ومن ثم فوجهة النظر الجزئية للصوت لا تتحدد من خلال المنولوج، وإنما تتحدد من خلال الانفعال بالقوى الإدراكية، وبحجم التعامل مع الآخرين، ولأن الحوار الداخلي يحقق أحد بناءات وجهة النظر عندما يساعد على كشف الصوت لنفسه وهذه مهمة أولية جزئية تكتمل بكشف الصوت للآخرين، وهذا يتأتى عبر الممارسات الحياتية للقوى الإدراكية وردود الأفعال نحوها.
"إن الأرضية التي يوفرها الاتجاه المنولوجي الفلسفي لا تكفي لظهور علاقة متبادلة جوهرية بين أشكال الوعي المختلفة وهنا يتعذر إقامة حوار بين الصوت والآخر.. ولذلك نلاحظ أن زيادة المنولوج ستؤدي إلى نتائج سلبية، ولأن مجال بحث وعناية روائي الأصوات ليست في الفكرة المجردة وصداها على صوت واحد، وإنما في صداها على الأصوات، ومن ثم فالمؤلف يتحرك بفكرته تحركاً عرضياً خارجياً لرصد ردود الأفعال الخارجية، والتي تمثل البناء الأساسي لوجهة النظر التي تكتمل مع البعد الآخر المحدود للمنولوج.
إذن فدور المنولوج هو نفسه الدور الذي يكتشف فيه الصوت ذاته وهو مجرد خطوة إجرائية أولية نحو بناء وجهة نظر الصوت، وبهذا الدور يتحدد حجم المنولوج ودوره في رواية الأصوات. أما الدور الأكبر فهو اكتشاف الصوت لمن حوله وذلك بالممارسة وردود الفعل الذي يجسد الوعي الإنساني للصوت، وتجسيم الوعي الإنساني والمجال الفكري المتباين للأصوات أمر يستعصي على المنولوج القيام به، بينما يسهل هذا الأمر مع الحوار الخارجي.
وإذا كانت رواية الأصوات تسعى إلى مسرحة الأحداث بدءاً من الحوار الكبير بين الأصوات، وهو حوار يفرض نفسه مسبقاً بحجم التباين المقصود بين الأصوات الروائية، ثم بتوزيع الأضواء لرصد ردود الأفعال، فإن الأمر الطبيعي هنا أن يقل حجم المنولوج، لأنه لن يتمكن من رصد المواجهات المفترضة لوجهات النظر المتباينة داخل البناء الروائي. وإذا كانت الحاجة إلى المنولوج قليلة فإن الحاجة إلى الحوار الخارجي أساسية في رواية الأصوات لا سيما وأن رواية الأصوات تحرص على (الترهين السردي) المعزز للوعي الحواري. والوعي الحواري بدوره يعكس بعض سمات تكسب رواية الأصوات أهمية منها أن المواقف الحوارية تؤكد استقلالية الصوت، وتبرز البعد الفكري لرد الفعل وتشعل مشاعر الترهين والآنية الحوارية، فضلاً عن أن الصوت الذي يعمد إلى (الأنا) وإلى الحوار وسيلة يدل على انفعال وعدم استقرار وتجدد لأحاسيس ومشاعر مصاحبة لتطور الأحداث الروائية.
وقد تشترك بعض الأجناس الأدبية المستخدمة للحوار في هذه الميزات، لكن عندما تأتي الحوارات عبر الـ (أنا) للصوت فلها دلالة خاصة مميزة لرواية الأصوات، ولأنها تدل على القدرة الغيرية للمؤلف بشكل مركب إذ أنه يتجاوز ذاته إلى الصوت ويمنحه حرية.. ثم يتجاوز الصوت ذاته لاكتشاف الآخر وهذه قدرة فنية خاصة لكاتب (رواية الأصوات).