وجهة النظر فی روایات الأصوات العربیة

محمد نجیب التلاوی

نسخه متنی -صفحه : 102/ 48
نمايش فراداده

أما (بروست) فقد نجح في دمج تعليقاته بكيفية مقبولة حرص فيها على إيجاد المسافة الإستطيقية لنغفر له تدخله كمؤلف.

وفي محاولة (القعيد) التي نحن بصددها فهي إذن لم تكن الأولى، ومن ناحية أخرى فهي محاولة تختلف عن المحاولات السابقة كلها في الغابة وفي الوسيلة الفنية التنفيذية، لأن القعيد عمد إلى غاية حداثية تسعى إلى مايسمى بـ(تكذيب التشخيص) فتدخله على هذا النحو ليعلن عن حقائق، وهذا الوجود القصدي البارز للمؤلف هو نوع من الإيهام القصدي بواقعية الحدث الروائي، وقد كثرت هذه المحاولات المشابهة مع الروائيين الحداثيين ومنهم (توماس مان) الذي اتخذ موقفاَ ضد كذب التشخيص، بل وضد السارد نفسه، ولذلك نستطيع أن نفهم عنده "سر سخريته الملغزة الغير قابلة للاختزال… وذلك انطلاقاً من وظيفته في الإبداع الشكلي.

لكن محاولة (تكذيب التشخيص) قد تنقلب ضد التفكير الروائي الجديد الساعي إلى الإيهام القصدي بالواقع، وذلك عندما يتحول تدخل الروائي إلى معلق بوعي مفرط بالأحداث قد يصل به حد النزعة الخطابية الممقوتة فنياً في البناءات الروائية المختلفة، وهذا ماوقع فيه (القعيد) في نهاية روايته عندما ذيل روايته بوسائل توثيقية منها ماجاء تحت عنوان "بعض تساؤلات من المؤلف"، ثم يوضح بخطابية زاعقة سبب كتابته للرواية فقال: "قررت الكتابة… لأخرج على مؤامرة الصمت والإسكات التي تدبر لإخفاء ماحدث ومايحدث… ورغم تسويد مئات الصفحات وتلطيخها بحبر زماننا الكاذب مازلت أشعر بذنب المشاركة في الصمت… نحن الكتاب الذين نحول جثث المعدمين إلى سيارات وزجاجات ويسكي لا نقول الكثير…

إن كثرة التواتر المقصود يتحول إلى الضد فما كنا في حاجة لأن يعلن الكاتب عن نفسه أنه خرج عن الصمت لأن ماكتبه دليل لا يحتاج إلى هذه المباشرة الزاعقة التي تؤثر في فنية البناء الروائي… وإذا كان تدخله نوعاً من الإيهام القوي بالواقع فماكنا أيضاً في حاجة إلى أن يقول في نهاية الرواية:"الأسماء والأشخاص والحوادث ليست من وحي الخيال. وأي تشابه بينها وبين الواقع لم تخلقه قوانين الصدفة. بل هو تشابه مقصود".

ووجود (القعيد) في روايته على هذا النحو يصنف تبعاً لتقسيمات (تودوروف) بموقع (الرؤية المرافقة Vision - avec)، وقصد به أن المؤلف يتساوى مع الصوت الروائي من حيث المعرفة. وحسب تقسيمات (جيرار جينيت) فالروائي هنا هو صاحب (التبئير الداخلي المتعدد/ لمحكي ذوتبئير داخلي متعدد Le Recite a focalisation inteme multiple variable). وهو يقصد قيام المؤلف بعرض الحدث الواحد من وجهات نظر عديدة.. وهو ماحرص عليه المؤلف هنا عندما قدم أصواته (الطبيب/الضابط/ الدبيش عرايس/ رئيس مجلس القرية…).

ونستطيع أن نحصي عدداً من السلبيات التي ترتبت على وجود المؤلف الظاهر بهذا الشكل في الرواية، ومن هذه السلبيات الهيمنة على الأحداث بشكل سمح له بالتدخل في رواية الأصوات وعلى الرغم من تركه للأصوات مساحة ضيقة إلا أنه اقتحمها بالتهميش. ومن هذه السلبيات تزاحم وسائل التوثيق لتحقيق الإيهام بالواقع وقد جاء هذا التزاحم التوثيقي المتنوع بتناسب طردي مع الغاية التأثيرية المتوقعة له، لأن الطاقة التأثيرية قد تناسبت تناسباً عكسياً مع تواتراها وكثرتها. وأما السلبية الأخيرة فتتمثل في إعلانه عن إشراك (المروي عليه)… ولكن هذا لم يتحقق بشكل عملي في بناء الرواية، ولم يف به ولم يزد حجم وجود (المروي عليه)، عن هذه الهيئة التلفظية التي صرح بها تصريحاً نظرياً في بدايات روايته.