نظریة الکسب فی أفعال العباد

جعفر سبحانی تبریزی

نسخه متنی -صفحه : 33/ 22
نمايش فراداده

*إمام الحرمين الجويني(المتوفّى 478هـ) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة *

إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين، ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم، وأنّ قدرتهم
ستنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه وإقداره، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسبّبات، وكلّ مسبّب
يستمد من سببه المقدّم عليه، وفي الوقت نفسه، ذاك السبب يستمد من آخر، إلى أن يصل إلى اللّه سبحانه.
وإليك نص عبارته:
إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه، فهو كنفي
القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل، فهو كنفي التأثير، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد
إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان
كما يحسُّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة،
والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة
--------------------
*( 60 )*
إلى ذلك السبب، كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب،
وهو الخالق للأسباب، ومسبباتهاـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه، محتاج من
وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر.
قال ^(1)الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا: وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين، وأبرزه في
معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب ـ على أصله ـ بالفعل والقدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما
يوجد من الحوادث فذلك حكمة، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً، وتأثير
الطبائع في الطبائع إحداثاً، وليس ذلك مذهب الإسلاميّين، كيف، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ
الجسم لا يؤثر في الجسم.^(2)
هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-الملل والنحل:1/98ـ99.
2-المصدر نفسه.
--------------------
*( 61 )*
وآخذه عليه، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية، ليس هو
الإيجاد والإحداث من كتم العدم، بل المراد هو تفاعل الأجسام والطبائع، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه،
كانقلاب الماء إلى البخار، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ
والعلم.
وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزَّهْر والشجر، فليست مستندة إلى
نفس الطبائع، بل الطبائع معدات وممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا، كشف عنها الذكر الحكيم عندما
صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه، قال: (*فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً*).^(1)
إنّ كون العبد فاعلاً لفعله، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود»
لا «ما منه الوجود»، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-النازعات:5
--------------------
*( 62 )*
بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة، لا بالمعنى الثاني، أعني إفاضة الوجود، والخلق بالمعنى القائم
باللّه سبحانه، فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد
بصورة وشكل، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان و