*( 56 )*
ثالثاً: أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد، فلأجل ذلك يتصوّر تارة
كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به
قدرته، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.
ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما، ولا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين، لا محذور
التزاحم والتمانع، ولا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد، وذلك لأنّ قدرة العبد في
طول قدرة اللّه سبحانه، فاللّه سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة، وأعطاه
الإرادة والحرية والاختيار، فلو اختار أحد
--------------------
*( 57 )*
الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من اللّه سبحانه، واختيار نابع عن ذاته، وحريّة هي نفس واقعيته
وشخصيته، فالفعل منتسب إلى اللّه لكون العبد مع قدرته وإرادته، وما يحفّ به من الخصوصيات، قائم
بذاته سبحانه، متدلّية بها، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة من
نفسه، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه، كما قال سبحانه:(*وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه رَمى*)^(1)، (*وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّه*).^(2)
فنفى عنه الرمي بعد إثباته له، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.
وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم، وما نشر
عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ حولها، وعليه «فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا».^(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-الأنفال:17.
2-الإنسان:30.
3-شرح المنظومة للسبزواري: ص 175 اقتباس من قوله فيها:
لكن كما الوجود منسوب لنا والفعل فعل اللّه وهو فعلنا.http://www.imamsadeq.o
gسلسلة المسائل العقائدية / 3 نظرية الكسب في أفعال العباد للاستاذ جعفر السبحاني من ص 58
ـ 98 ص
--------------------
*( 58 )*
*المرحلة الثالثة: مرحلة الإنكار والإبطال*
قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب وهي فيهما بين التبيين
والتطوير ـ ولكن مشايخ الأشاعرة ـ عفا اللّه عنّا وعنهم ـ و إن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها
وتطويرها، ولكنّهم لم يأتوا بشيء يسمن ويغني من جوع، أو يروي الغليل ـ وكان الأمر على هذه الحالة
إلى أن بعث اللّه رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف، وجفاف النظرية ومضاعفاتها السيّئة، فنفضوا
غبار التقليد عن عقولهم، وتفكّراتهم، ونظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبـق، فجعلوا
لقدرة الإنسان نصيباً في أفعـاله وأعماله، منهم:
--------------------
*( 59 )*