غير أن الناصرين لمذهب الأشعرى بعد تقريرهم ما بنى رأيه عليه من نواميس الكون أوجبوا على المعتقد أن
يوقن بتلك المقدمات ونتائجها كما يجب عليه اليقين بما تؤدى إليه من عقائد الإيمان ذهابا منهم إلى أن
عدم الدليل يؤدى إلى عدم المدلول ومضى الأمر على ذلك إلى أن جاء الإمام الغزالى والإمام الرازى ومن
أخذ مأخذهما فخالفوهم في ذلك وقرروا أن دليلا واحدا
--------------------
12
أو أدلة كثيرة قد يظهر بطلانها ولكن قد يستدل على المطلوب بما هو أقوى منها فلا وجه للحجز في
الإستدلال
أما مذاهب الفلسفة فكانت تستمد آراءها من الفكر المحض ولم يكن من هم أهل النظر من الفلاسفة إلا
تحصيل العلم والوفاء بما تندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول أو استسكناه معقول وكان يمكنهم أن
يبلغوا من مطالبهم ما شاءوا وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته ويدع لهم من إطلاق الإرادة ما
يتمتعون به في تحصيل لذة عقولهم وإفادة الصناعة وتقوية أركان النظام البشرى بما يكشفون من مساتير
الأسرار المكنونة في ضمائر الكون فما أباح الله لنا أن نتناوله بعقولنا وأفكارنا في قوله خلق لكم ما
في الأرض جميعا إذ لم يستثن من ذلك ظاهرا ولا خفيا وما كان عاقل من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم
الطريق أو يضع العقبات في سبيلهم إلى ما هدوا إليه بعد ما رفع القرآن من شأن العقل وما وضعه من
المكانة بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع وبعد ما صح من قوله
عليه السلام أنتم أعلم بشئون دنياكم وبعد ماسن لنا في غزوة بدر من سنة الأخذ بما صدق من التجارب وصح
من الآراء
لكن يظهر أن أمرين غلبا على غالبهم الأول الإعجاب بما نقل إليهم عن فلاسفة اليونان خصوصا أرسطو
وأفلاطون ووجدان اللذة في تقليدهما لبادىء الأمر والثانى الشهوة الغالبة على الناس في ذلك الوقت
وهو أشأم الأمرين زجوا بأنفسهم في المنازعات التى كانت قائمة بين أهل النظر في الدين واصطدموا
بعلومهم في قلة عددهم مع ما انطبعت عليه نفوس الكافة فمال حماة العقائد عليهم وجاء الغزالى ومن على
طريقته فأخذوا جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالإلهيات وما يتصل بها من الأمور العامة
وأحكام الجواهر والأعراض ومذاهبهم في المادة وتركيب الأجسام وجميع ما ظنه المشتغلون بالكلام يمس
شيئا من مبانى الدين واشتدوا في نقده وبالغ المتأخرون منهم
--------------------
13
في تأثرهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الإعتدال فسقطت منزلتهم من النفوس ونبذتهم العامة ولم
تحفل بهم الخاصة وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامى من سعيهم
هذا هو السبب في خلط مسائل الكلام بمذاهب الفلسفة في كتب المتأخرين كما تراه في كتب البيضاوى والعضد
وغيرهم وجمع علوم نظرية شتى وجعلها جميعا علما واحدا والذهاب بمقدماته ومباحثه إلى ما هو أقرب إلى
التقليد من النظر فوقف العلم عن التقدم
ثم جاءت فتن طلاب الملك من الأجيال المختلفة وتغلب الجهال على الأمر وفتكوا بما بقى من أثر العلم
النظرى النابع من عيون الدين الإسلامى فانحرفت الطريق بسالكيها ولم يعد بين الناظرين في كتب
السابقين إلا تحاور في الألفاظ أو تناظر في الأساليب على أن ذلك في قليل من الكتب أختارها الضعف
وفضلها القصور
ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم فجاء قوم ظنوا في أنفسهم مالم
يعترف به العلم لهم فوضعوا مالم يعد للإسلام قبل باحتماله غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا ومن
البعد عن ينابيع الدين أعوانا فشردوا بالعقول عن مواطنها وتحكموا في التضليل والتكفير وغلوا في ذلك
حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا
حلال وهذا حرام وهذا كفر وهذا إسلام والدين من وراء ما يتوهمون والله جل شأنه فوق ما يظنون وما يصفون
ولكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط وكثرة الخلط شر عظيم وخطب