إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن عُلِمَ من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يُسمّى كافراً .
ومنهم مَنْ يقول :
إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يُسمّى كافراً (48) .
(48) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) .
وهذه المبادىء مهما كان منشؤها كانت ولا زالت تخدم الحكّام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرّفاتهم ، لأن أصحاب هذه المبادي كانوا ولا يزالون يرون أن مهادنة هؤلاء الحكّام صحيحة وغير منافية للشرع وللتديّن بالإسلام . فكانت كما يقول أحمد أمين : هذه المبادىء تخدم بني امية ولو بطريق غير مباشر وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني اُمية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصحّ الخروج عليهم . فكان أن الامويين لم يتعرّضوا لهم بسوء ، كما تعرّضوا للمعتزلة والخوارج والشيعة (49) . بل أصبح الإرجاء كما نقل الجاحظ عن المأمون : دين الملوك (50) . وهذه المزعومة - الإرجاء - باطلة أساساً ، لدلالة النصوص الواضحة على أنّ العمل فعلا وتركاً له أثر مباشر في صدق أسماء الإيمان والكفر . ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان . فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلاً . وفي قبال مخالفات الحكّام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدّة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتّى قُتِلَ عثمان وهو خليفة من أجل بعض مخالفاته الواضحة . لكن ، لمّا تربّع بنو اُمية على الحكم ، بدأوا يحرّفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مُسْتَمِدّين بوعّاظ السلاطين من أمثال الزهري : فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبد الملك سأل الزُهْريَ قال : حَدّثْنا بحديث
(49) ضحى الإسلام ( 3 : 324 ) . (50) الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 141 ) .
النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : مَنْ مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة ، وإن زنا وإن سَرَق (51). فهشام حافظ لهذا الحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريراً عليه وتصديقاً به ، وكأنّه يقول له : إنّ مثل هذا الحديث يُعجبنا ويفيدنا فاروه لنا . ولم يكذّب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أينَ يُذْهَب بك ، يا أمير المؤمنين كان هذا قبل الأمر والنهي . لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرّمتين ?
فعاد أمر الأمة إلى أن لم ير المضحّون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت عليهم السلام إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح . وقام الإمام الحسين عليه السلام بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما ابتلي به من تدابير خطرة ، ومؤامرات لئيمة دبّرها بنو امية . وقد أدّت تلك التضحية العظيمة ، إلى فضح حكّام بني اُمية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الاُمة منكراً له ولا نكيراً عليه ، هوّن عليهم الإقدام على أعمال فظيعة أخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرّر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرّة ، كانت دعواهم : - أن يزيد لَرَجُل ليس له دين -(52)
والأمويون تأكيداً على كفرهم وخروجهم على كل المقدّسات ، استباحوا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبنأ صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهتكوا الأعراض و انتهبوا الأموال (53) . وعقّبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الاَمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شي عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشي مقدّس . (51) الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 141 ) . (52) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) . (53) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( 63 هج ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة ، وعبد الله بن الغسيل .
والمرجئة مع ذلك يقولون في الامويين إنهم الحكّام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرّض لهم ولا الخروج عليهم . إن هذا الانحراف الذي عرض لامة الإسلام ، كان ردّة خفيّة تمرّر باسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له . فكانت جهود الإمام السجاد عليه السلام هي التي اعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرصّ الصفوف ، فتمكّن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي عليه السلام من إطلاق الثورة ضدهم . وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الامويّين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتّهم بالإرجاء (54) أن يرى ولاة بني امية مُخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدّة ، وكان يُفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللصّ المتغلّب المتسمّي بالإمام والخليفة . (55) . وفي الإمامة والولاية : . كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكّام يسمّون أنفسهم أئمة للناس ، واُمراء للمؤمنين ، بلا منازع . ولا يدّعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلاّ إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادّعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه . والإمام السجاد عليه السلام قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أيَة تقيَة وخفاء . ولعلّ لجوه عليه السلام إلى هذا الاُسلوب المكشوف كان من أجل أنّ بني اُمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة
(54) لاحظ تاريخ بغداد ( ج 13 ) وانظر الكنى والألقاب ( 1 : 52 ) . (55) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( 3 : 274 ) .
البلاد ، فضلاً عن الإمامة ، حدّاً من الوضوح لم يمكن ستره على أحد . فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد عليه السلام كي لا يبقى هذا المنصب شاغراً ، وإن لم تكن الإمامة الحقّة حاكمةً ظاهراً . ومهما يكن ، فإنّ خطورة إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني اُمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين . وقد تعدّدت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدّد المناسبات ، والظروف : 1- ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شَعر طويل ، فقال : إلى مَن يذهب الناسُ ? قال : قلتُ : يذهبون هاهنا وهاهنا قال : قل لهم : يجيئون إلي (56) . 2- قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي أخبرني كم يكون الأئمة بعدك ?
فقال : ثمانية ، لأنّ الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر إماماً ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، مَن أحبَنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومَن أبغضنا أو ردَ واحداً منّا فهو كافر بالله وبآياته(57) . 3- وقال عليه السلام : نحن أئمّة المسلمين ، وحُجَجُ الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحنُ أمانُ أهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء . . . ولو ما في الأرض منّا لساخَتْ بأهلها ، ولم تَخْلُ الأرض منذ خلقَ اللهُ آدمَ من حُجّةٍ لله فيها ، ظاهرٍ مشهورٍ أو غائب مستورٍ ، ولا تخلو ، إلى أنْ تقوم الساعة ، من حجّة لله فيها ، ولولا ذلك لم يُعبد الله(58) . 4- - وقال عليه السّلام : نحنُ أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء
(56 تاريخ دمشق ( الحديث 21 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 531 ) . (57 كفاية الأثر للخزّاز ( ص 236 -237 ) . (58 أمالي الصدوق ( ص 112 ) الاحتجاج ( ص 317 ) .
الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله(59) . 5 - وكان يقول في دعائه يوم عرفة : . اللهمّ إنّك أيَدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك بعد أن وصلتَ حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة الى رضوانك ، وافترضتَ طاعته ، وحذّرتَ معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدّم ، ولا يتأخّر عنه متأخّر ، فهو عصمةُ اللائذين ، وكَهْفُ المؤمنين ، وعُرْوةُ المتمسّكين ، وبهاء العالمين . اللهمَ فأوْزِعْ لوليك شكر ما أنعمتَ به عليه ، وأوْزِعنا مثله فيه ، وآتهِ من لدنك سلطاناً نصيراً ، وافتح له فتحاً يسيراً ، وأعِنْهُ بركنك الأعزّ . . . وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنُنَ رسولك صلواتك اللهمَ عليه وآله . وأحْيِ به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، واجْلُ به صَدأ الجور عن طريقتك ، وأبِن به الضرّاء من سبيلك ، وأزِل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عِوجاً ، وألِن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك(60) . ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتّجه القلوب الى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة الى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والاَذان صاغية الى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرّف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحقّ من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات . ولا يرتاب المتأمّل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات التي يبتعد عنها الحكّام المدّعون للإمامة أشواطاً ومسافات طويلة يعدّ تعريضاً بهم ، وتحدّياً لوجودهم . وأن الإمام السجاد عليه السلام لمّا كان يعرّف الإمامة بهذا الشكل ، فهو بلا ريب
(59) بلاغة علي بن الحسين ( ص 60 ) . (60) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم ( 47 ) .
يستبعدعنها كلّ أدعياء الإمامة من غير ما لياقةٍ ، فضلاً عن الاستحقاق . فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائدياً وعملياً ، أين هم من هذه الإمامة المقدّسة ?
6- وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى : اللهمَ , إنَ هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزّوها ، وأنت المقدّرُ لذلك لا يُغالب أمرك . حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزّين ، يرون حكمك مبدّلاً ، وكتابك منبوذاً ، وفرائضك محرّفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيّك متروكة . اللهمَ : العن أعداءهم من الأوّلين و الاَخرين ، ومن رَضِيَ بفعالهم وأشياعهم ، وأتباعهم (61) . ويوصي الإمام إلى ولده محمّد الباقر فيقول : بُنيّ : إنّي جعلتُك خليفتي من بعدي ، لا يدَعيها في ما بيني وبينك أحد إلاّ قلّده الله يوم القيامة طوقاً من النار(62) . بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزُهْري ، وهو من علماء البلاط الأمويّ ، في ما روي عنه ، قال : دخلتُ على علي بن الحسين عليه السلام في مرضه الذي تُوفي فيه : فقلتُ : يا بن رسول الله ، إنْ كان أمرُ الله ، ما لابدّ لنا منه ، فإلى مَنْ نختلف بعدك ?
فقال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، الى ابني هذا وأشار إلى محمّد الباقر عليه السلام فإنّه وصيّي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره . قال الزُهْري : قلتُ : هلاّ أوصيتَ إلى أكبر ولدك ?
قال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، ليست الإمامة بالكِبر والصِغَر ، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة . (61) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . (62) كفاية الأثر للخزّاز ( ص 240 -241 ) .
قال الزُهْريّ : قلتُ : يا بن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيّكم أنْ يكون الأوصياءُ بعده ?
قال عليه السلام : وجدناه في الصحيفة واللوح - اثنا عشر اسماً - مكتوبة إمامتهم . ثم قال عليه السلام : يخرج من صُلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم - المهديّ -(63) . إلى غير ذلك من الاَثار الواردة في هذا الباب . والمهمّ في الأمر أنّ الإمام السجّاد عليه السلام بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهمّ ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكّن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرّض التشيّع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدّتْ بالعقيدة إلى تضعضع لم يسبق له مثيل كما أدّتْ إلى يأس في النفوس ، وتمزّق بين صفوف الشيعة بما لا يتصوّر !. فكانت مواقف الإمام السجّاد عليه السلام هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكرّرة ، سبباً لِلَملَمة الكوادر من جديد ، ورص الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثّفة ، واستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرّف أو يشوبها التشويهُ لتكوين الأرضيّة الصالحة لبذر علوم آل محمّد على أيدي الأئمّة لاسيما الباقر والصادق عليهما السلام . إثارة خلافة الشيخين : . إنّ بني اُمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرّة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيع جسدياً ، بقتل الأعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، وإنّما حاولوا أيضاً القضاء على التشيع فكريّاً وحضاريّاً ، واتّبعوا سُبُل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كلّ ما يمت إلى أهل البيت عليهم السلام من فكر وتراث وشعار ، حتّى حاربوا أسماءهم ، فكان مَن يتسمّى بها مهدّداً . ومن أخبث أساليبهم بثّ بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكّنوا من
القضاء على الإسلام كلّه ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، وممّا ركّزوا عليه في هذه
(63) كفاية الأثر للخزّاز ( ص 243 ) .
السبيل هو إثارة موضوع - خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر - اللذين حكما الأمة باسم الخلافة فترةً غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثاراً للبحث بين كلّ من الشيعة وأهل السنّة . فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقّاً لأئمة أهل البيت عليهم السلام بالنصّ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لاينطق إلاّ عن الوحي الإلهي ، وقد التزموا بهذا على أنه واحد من اُصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميّز لهم عن أهل السنّة ، الملتزمين بخلافة مَن استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذْ حكم ابو بكر ، ثم عمر بدعوى وأنّ ذلك تمَ برضاً من الناس الحاضرين ، وأنّ ذلك كاف في تحقّق الحقّ لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك . ؟. ومن الواضح تاريخيّاً أنّ الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة . ومجرّد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدّل على الرضا ، لاحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب . مع حصول الاعتراض العلنيّ قولاً وفعلاً من بعض كبار الصحابة . وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، اُمور إن دلّت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدل على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين !. ومع وجود هذه المفارقات ، فإنّ في المسلمين مَنْ لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإنْ وَقَعَ ، والتزموا بما هو الحقّ ، وإن لم يقع . !. ولقد جُوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنّة فاعتبروه كفراً وأحلّوا دماء الرافضة بزعمهم مع اعترافهم بأنّ التأويل يمنع من التكفير ، وأنّ
الحدود تُدْرَؤُ بالشبهات !. وكان الأمويّون يُثيرون هذا الخلاف لاصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين .
فكان موقف الإمام السجاد عليه السلام مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتّى صيَر أمره الى الإحباط . فلابدّ أن يُعرف : أنّ قضيّةَ الإمامة وثبوتها لأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وخلافة الخلفاء وحقّهم في الحكم ، قضيّة أدقّ من أن يُبَتَ فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسبّ ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين . بل هي عند العقلاء قضيّة قناعة واعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل . وهي عند أهل البيت عليهم السلام قضيّة هداية وإيمان ، محورها - الحقّ - الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه . واذا تصدّى لها أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وتعرّضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو إلى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم إلى - الحق - المنشود من كلّ الرسالات الإلهيّة . فقد كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول : ص94
ص95
ص96
ص97
ص98
ص99
ص100
ص101
ص102