أغنية الصياد الصغير

محمد شاكر السبع

نسخه متنی -صفحه : 56/ 22
نمايش فراداده

يعتقدون. لكن المفوضين الثلاثة منذ الصباح، وبالضبط منذ أمسكوا سيارة الأسماك المهربة في نهر سعد، وأعادوها ثمانية وعشرين كيلو متراً إلى الوراء، إلى حيث مركز شرطة الماجدية، مع سائقها ووكيل أعمال وهابي، حققوا مع السائق ومع الوكيل موقعين بهما في شبكة محيرة ومبلبلة من الأسئلة التي ألهمها إياهم القانون، جعلوهما يعترفان بكل التفاصيل بعد نصف ساعة من التحقيق، ويعترفان بأشياء أخرى تخص المالك الحقيقي للأسماك بعد أن وعدوهما بإطلاق سراحهما. وضعوا أمام حاكم التحقيق محضري التحقيق الخاليين من أي ثغرة يمكن أن يتسلل منها الدفاع. أصاب حاكم التحقيق الذهول وهو يقرأ المحضرين من البداية إلى النهاية، وماكان قد علق عليه الآمال، يعني تلك الثغرات العديدة والكبيرة التي يضعها مفوضو المراكز في محاضر التحقيق، والتي هي في كل الأحوال، أبواب تطل على براءة الموقوفين، لم يجدها في هذين المحضرين، وهكذا سلك الدرب الوحيد الذي تركه له مفتوحاً ومعبداً المفوضون الثلاثة، فذهب السائق، ووكيل أعمال وهابي إلى ما وراء قضبان غرفة التوقيف، وبيعت أسماك ملك الصفاطين بأسعار بخسة ذهبت عن طريق الإيراد إلى خزينة الدولة، ومع ذلك فقد كانت تلك الأسماك ذات طعم تلذذ به أكثر من ثلاثة أرباع القاطنين في الماجدية.. ووهابي نفسه ليس ذلك الرجل الذي يمكن وصفه أنه لين العريكة... يبدو أن المفوضين الثلاثة لم يصطدموا به في الطريق مصادفة، بل هم اختاروه اختياراً، اختاروه كضحية لفرض هيبتهم وبأسهم كرجال قانون ما يزالون يحتفظون بدماثتهم وابتساماتهم. ومن المؤكد أن تلك السيارة لم تقع في قبضتهم بسبب مخبر مجهول لم يشأ ذكر اسم الصفاط مالكها مثلما قالوا فيما بعد لوهابي الذي ملأ الدنيا زمجرة ووعيداً. لقد كانوا يعرفون كل شيء عن تلك السيارة المهربة، لأن رجال وعمال وهابي كانوا يلتقون بهم في الشوارع والمقاهي، بل ويزورونهم في مركز شرطة الماجدية. كان اختيارهم لوهابي يعني مواجهة أقوى أسود تجار الأسماك قاطبة، فوهابي تربع على قمة هرم الصفاطين منذ زمن نسيه الناس لطوله، وهو رجل ذو ثروة ونفوذ وحظوة لدى الناس والمسؤولين، وسيّر خلال كل الأزمنة أساطيل لا عد لها من السيارات المحملة بالأسماك إلى بغداد والمحافظات الأخرى، إلا أنه لم يفهم لماذا قررت السلطات المحلية عدم تصدير الأسماك خارج العمارة خلال هذا الموسم. فكر الرجل بسمعته، فكر بمكانته بين الصفاطين، يعني أنه لم يفكر بالمال الذي فقده جراء فقدانه للسيارة، عندئذٍ نظر إلى الأمر برمته على أنه مكيدة، ومكيدة حقيرة صنعتها عقول عدائية منقادة إلى قلوب مترعة بالسموم. دخل مركز شرطة الماجدية زاعقاً وصارخاً وشاتماً المفوضين الثلاثة، وذاكراً أسماءهم الصريحة، خرج لاستقباله مأمور المركز والمفوضون الثلاثة، استقبلوه بوجوه مبتسمة وكلمات لينة معتذرة. كانوا يبدأون كلامهم بكلمة "عمي" وجعلوا ذلك الكلام سلساً، هادئاً، ودافئاً يرشح بما يشبه التوسل. ولأن ملك الصفاطين لم يستطع أن يرى، الآن، النجمات البيض اللامعة على وسائدها السود الصغيرة وما يمكن أن تفعله، لا لأنّها تومض بقوة القانون فقط، بل لأنها تمثل الحكومة، إنما رأى ثلاثة فتيان كانوا يتدحرجون أمامه في شوارع الماجدية، ثلاثة فتيان أولدهم آباء يعرفهم معرفة تجعله ينظر إليهم نظرة مَنْ لا يكلف نفسه القيام لهم لو مروا بمجلسه: حلاق في سوق النجارين وفراش في محكمة وصفاط كان حتى الأمس القريب يعمل صياداً على أحد قواربه، وحتى الآن ما يزال يلجأ إليه لاستئجار القوارب والشباك. وهكذا تفاقم غضبه وتفاقم سخطه تجاه هؤلاء المتوسلين الثلاثة الذين جعلوه يصطدم بأنف الحكومة. وقال كلاماً سمعه الناس الذين تجمهروا أمام باب مركز الشرطة، سمعوه بوضوح تام لا لبس فيه، وكانوا على يقين أنه ليس كلاماً، بل تهديداً صريحاً، وفيما بعد، بعد أن خرج الصفاط من مركز الشرطة شهد سبعة عشر رجلاً وأربع عشرة امرأة، ووقعوا على شهاداتهم بالأقلام وببصمات الإبهام، وبقلوب مطمئنة غير خائفة وغير مجبرة، أنهم سمعوا وهابي يقول بصوت عالٍ وواضح جداً، أنه سيلقي المفوضين الثلاثة وليد وعدنان وجعفر في القمامة، وأن الحكومة، كل الحكومة من صغيرها إلى كبيرها، هي في جيبه، وأن القانون الذي تتبخترون تحت ظلاله لا يساوي عندي حبة فاصولياء، نعم حبة فاصولياء واحدة، كما شهدوا أنهم رأوا بأعينهم التي سيأكلها دود القبر غداً، كيف أمسك وهابي بالمفوض وليد من قمة قميصه وهزه عدة مرات في مدخل المركز، ثم ضربه بالحائط عدة مرات أيضاً قبل أن يخرج من المركز ويركب سيارته. وضع المفوضون الثلاثة محضر التحقيق أمام حاكم التحقيق، وأدخلوا عليه السبعة عشر رجلاً والأربع عشرة امرأة، الذين اضطروا