ظل نصر الدين البحرة أميناً لفكرته عن كتابة القصة طيلة أربعة عقود ونيف هي عمره في الإبداع القصصي الذي كرَّسه مع صدور مجموعته القصصية الأولى "هل تدمع العيون" (1957)، وهي فكرة حريصة على الميل التقليدي لفهم القصة وصنعتها وتنظيم أنساقها السردية وتوسل أغراضها ومقاصدها، وإن مازج هذا الميل التقليدي نزوع إلى التجديد، ضمن السعي إلى تأصيل السرد التقليدي العربي نفسه، كما في مجموعته المتميزة "رمي الجمار"(1980).
انطلق نصر الدين البحرة من الحكاية في سيرورتها التقليدية في التراث العربي القديم من جهة، وفي التراث العربي الحديث مستفيداً من التقليد الغربي كما مارسه القصاصون الواقعيون الكبار، أمثال تشيخوف وموباسان وأوهنري، على أن القصة مبنية على الحكاية المنتزعة من الحياة، مهما كان الشكل الذي تصاغ به، وقد أعلن في مقدمته لمجموعته القصصية الأولى أنه لا يستطيع أن يتحدث عن شكل معين للقصة، ولا يمكنه أن يقترح أو أن يطري طريقة محدودة لكتابة القصة، لأنه يعتقد أن القصة كالحياة في حركة وتطور دائمين، متسائلاً بما يشبه الجزم أن القصة قطعة من الحياة، دون أن يعني ذلك أي تهاون في الشكل الفني للقصة على حساب مضمونها (ص5).
واستلزم هذا الفهم التقليدي للقصة طوابع فنية لازمت كتابته للقصة حتى مجموعته الخامسة والأخيرة "محاكمة أجير الفران" (1997)، ولعلنا نوجز هذه الخصائص فيما يلي:
1-الإيمان بأن القصة تستند إلى القص، أي قيامها على السرد وما يستتبعه من قص وقائع أو أحداث أو ما نسميه "التحفيز" بلغة النقد القصصي، أي أن القصة ينبغي لها أن تنهض من داخلها على فعل، هو مجموعة حوافز (وحدات قصصية أصغر) تندغم في عملية السرد داخل بنية التحفيز، أي ضبط تنامي الفعلية، وعد البحرة ذلك ضرورة للقصص الحديث، تبدو دونه القصة سبيلاً لتعقيد القراء "كاد يوصد دونهم باب القراءة" (ص9)، كما أوضح ذلك في مقدمة مجموعته القصصية الرابعة "رقصة الفراشة الأخيرة" (1989).
يغلب على تنظيم نسق التنضيد عند البحرة التحفيز الواقعي، وهو أن يخضع التنامي الفعلي، توالي الوحدات القصصية الأصغر، لاعتبارات التدرج الزمني المنطقي، بالإضافة إلى خصائص أخرى غدت علامات للقص التقليدي مثل وضوح البناء، وتناظر العلاقات الداخلية، والعناية بالسببية الخارجية، وتجنب الميوعة العاطفية ما أمكن مما لا يقود العمل الفني إلى المشجاة "الميلودراما"، أو الارتهان لمجرد التعاطف، وقد تخلص البحرة من الانزلاق إلى وهدة الانفعال، محتفظاً لقصته بمدى مقبول من المنطق والتحكم بحركة السرد من خلال الاقتصاد في الحوافز حيناً، ومن خلال تجلية المعنى الإنساني في قلب الحبك القصصي حيناً آخر.
وتوضح قصص البحرة المبكرة حرصه على انبناء السرد برمته داخل التحفيز الواقعي سعياً للإحاطة بالشرط الإنساني لجماعته المضطهدة تحت وطأة وضع اجتماعي أو أخلاقي جائر، ولعل هذا ما يسوغ نبرة التعاطف. ولكنها لا تركن إلى إغراء الاسترسال العاطفي والتباكي على مضاعفات الشقاء، فالإنسان يكابد هذه الشروط القاهرة، ويقارعها، ويفلح في خلاص، أو يتأسى من التجربة، وهذا ما جعل واقعية البحرة متميزة عن واقعية أقرانه من القصاصين العقائديين داخل رابطة الكتاب السوريين أو خارجها.
2-الحرص على الواقعية، ذات الميل النقدي من جهة، أو الرومانسي جهة ثانية، أو ذات الميل الانطباعي من جهة ثالثة.
وكان بلغ في واقعيته مبلغاً تبشيرياً بالاشتراكية في بعض القصص مما يجعلنا نلحظ ميلاً إلى واقعية اشتراكية خالط نزوعاته النقدية أو الرومانسية أو الانطباعية، وكانت هذه الواقعية بنزوعاتها المختلفة ظاهرة في مجموعاته كلها، وبخاصة في مجموعاته الأولى والرابعة والخامسة، مما سبقت الإشارة إليه.
ولعلنا نذكر بعض هذه الأمشاج التي مازجت واقعيته، ولا سيما الرومانسية أو الانطباعية. وهذا واضح في مدار كتابته القصصية، باستثناء كتابه القصصي الفريد "رمي الجمار"، ونذكر من مجموعته القصصية الأولى قصته "عندما يأتي المساء" بما تتوفر عليه من أمشاج رومانسية من غلبة الذاتي إلى معاناة الكآبة، إلى الشعور العميق بالفردية المريضة، إلى الانعزال والقلق وعدم التكيف والأذى النفسي وتعذيب الذات بالخمرة أو سواها، ومرد ذلك إلى أن حبيبته تركته وتزوجت غيره.
ونذكر من القصص التي تنطوي على أمشاج انطباعية قصة "هذا الثمن غال جداً" من مجموعته الأولى، كالإفراط في الوصف المحايد، والنظرة الخارجية، وتجنب التصريح بوجهة النظر بانفتاح المنظور السردي على مشهدية حكائية تنقل من الحياة دون أن تُعنى بتحديد أغراضها، محيلة إلى التباس الفعل الموضوعي ذاته، ليأمل القاص بعد ذلك أن يصير بصر السارد بصيرة لدى المتلقي. إن القصة وصف متأن لعالم الطفولة وما يلتم عليه من فعل سرعان ما يشي بغرضه الكامن.
عرض البحرة في قصته حال الشخصيات: قمر التي لم تنه بعد السنة السادسة من عمرها، والعم، ورويدة، ثم الطفل، وتغلغل في ثنايا تعبيره الإنساني بحنو يناسب هذه الحال الطفولية: