وصحيح أن (حداثتنا) ـ الشعرية على وجه الخصوص ـ تكاد تنتهي سياقات أدائها إلى (تفخيمات ذاتوية) لممثليها تشبه التورم، في عمليات استبدال واضحة (للأنا) بواقع لم يعد سهلاً فهم حركته ناهيك عن إمكانية التأثير فيه بالخطاب الإبداعي وحده، ولكنها لم تحافظ فقط على أنظمة اللغة التي باتت أهم حصون وجودنا القومي المتمايز وحسب بل هي قد عملت على تطويرها ضمن الحدود الممكنة، على قاعدة تأصيلها في شروط (المعاصرة) بوجه عام. وبالطبع، لا تبيح نهايات تلك (الحداثة) للكتاب والشعراء الجدد هدر أنظمة الأداء اللغوي تعبيرياً ولا تجاهل الوظائف المستجدة كضرورة لعملية الإبداع باللغة. فثمة قيم جمالية وغير جمالية يجب الحفاظ عليها راهنياً في وجه محاولات الاكتساح الثقافي لهويتنا من قبل العولمة والعولميين، وثمة (بقايا عقل) وذائقة ورؤى لا بدمن الحفاظ عليها، ولو في الحد الأدنى من التماسك، مع العمل على إعادة توظيفها ـ عبر النص الإبداعي ـ لخدمة بقائنا. وربما أن ذلك هو قدرنا في هذه المرحلة الحضارية الانتقالية الراهنة. والآن، وبعد هذا التقديم، ماهي هذه (القصة القصيرة جداً)؟!… ماهي قصيدة (الومضة) لدى شعرائنا الشباب حصراً؟! ماهي قصيدة النثر.. وإلى ماذا آلت؟!
يذكر هذا المصطلح سريعاً بالتوكيد على اختزال عمليات الحياة إلى نتف معزولة أو غير مندمجة في سياقات مديدة مفيدة، وذلك يحيل إلى ما تطلبه عملية (العولمة) وتحاول فرضه بأشكال متنوعة من القوة على مختلف المجتمعات البشرية.
وضمناً، هناك محمول في المصطلح يدل على الاستجابة لنزعة الاستهلاك، مثلما تستهلك (سندويشات الهمبرغر، أو وجبات مطاعم مكدونالد).
والحقيقة النصية للمصطلح تقوم على اختزال السرد ـ وغالباً على إلغائه ـ مع أن السرد حياة، حسب إشارة لإدوار سعيد، والحياة سرد لتفصيلات الوقائع المفردة إذ أن السرد يلملمها في سياقات ويمنحها معناها، فهي ـ أي الحياة ـ تصطنعه من أجل ذلك حسبما نخمن نحن.
وفي اختزال السرد يختفي (التبنين) ـ أي وجود البنيات في علائق تركيبية ـ وفي أحسن الأحوال يقوم ما هو مختزل على ما يشبه البنية الأحادية اليتيمة، وكل هذا يساوي تسطيحاً في النتيجة، وقصراً للدلالة ـ إن وجدت ـ على إلماحة عابرة لمحصلة ملاحظة سطحية… وفي هذا كله تهدر أنظمة الأداء اللغوي الناجع مثلما تهدر الوظائف الدلالية الهادفة إلى إنجاز رؤية ناجعة ـ أو رؤيا، ليختر من يحب إحدى اللفظتين كما يحب ـ لمعنى الوجود في العالم.
وإذا دققنا النظر في مؤدى ذلك كله، وجدنا (الانفلاش) أساس هذه الظاهرة الكتابية اللينة الهينة، ووجدنا في عمق الانفلاش ما تطلبه العولمة بالتمام والكمال! ومرة أخرى، من دون أي نية في رمي أحد بالاتهام من أي نوع!! وكي لا أتهم بأنني أحاول ذلك سأختار صديقاً عزيزاً للاستشهاد ببعض نصوصه من مجموعته الصغيرة جداً. إنه (أحمد جاسم الحسين) من سوريا وهو يتهيأ لنيل درجة الدكتوراة في الأدب من جامعة دمشق، أما مجموعته المذكورة فهي (همهمات ذاكرة). وهو بالمناسبة من الجادين في البحث والمتنوعين في النشاط. وقبل الاستشهاد ببعض نصوصه سنورد ما جاء على صفحة الغلاف الأخير لمجموعته المذكورة: