إن المعنى يرتقي هكذا، إذ ثمة دائماً هدم وبناء لا بد منهما كي تستمر العمليات السابقة. وبارتقاء المعنى يكون سجال الوجود والعدم أرقى ما يكون على الحافة الدقيقة بينهما حيث تجد الفلسفة ذاتها في أسئلتها المشتقة من ذلك السجال، وفي محاولاتها المتجددة للإجابة على تلك الأسئلة المتسمة بالثبات. وهي ترفع الإبداع إليها لتجد فيه وسيلة كي ترتفع هي به، وتنفتح حدود إدراك القانون أكثر كي يباح لما هو "موجود" أو "ممكن الوجود" مقاربة التطلع إلى "وجوب الوجود" وإلى "واجب الوجود بذاته"- على حد التعبيرات الأرسطية- رغم يقين الموجود والممكن إذ يتحقق بأنهما (كمحدود) محكومان- بموجب القانون ذاته- بألاّ يقدرا إطلاقاً على أن يصيرا من طبيعة (غير المحدود). ومن الطريف، أن المعنى يتعزز- فيما هو يُنتقضُ وينبثق متجدداً في الوقت ذاته- كلما اصطدم بجدار عجزه أمام اللامحدود.. لكان ثمة يقظة أرقى دائماً لحلم التجاوز مع كل صدمة.. ولكأن ما هو مركب في بنيان الكينونة البشرية محكوم بهذا الحلم الذي يمنع اليأس، أو لكأنما اللامحدود يمسك بالمحدود مانحاً إياه ما يحول بينه وبين أن يتبدد.
إن العدم هنا ينكسر مرتداً عن امتلاك المعنى وقد كاد يطبق عليه ويصبح الوجود نافذ القوة في إثبات ذاته.. فالوجود نصٌّ- على المجاز- قوامُهُ المعنى، وهو يحتمي بالصورة في التعبير عن ذاته وتوكيدها، والوجود- من جهة أخرى- تظاهراتٌ لحركة البنيان الطاقي في الكون، حيث القانون يُبادِل بصورة مستمرة- تكاد تكون شبه مغيبة عنا- ما بين الكثيف واللطيف في هذا البنيان الطاقي… وهو بهذا يمنح المعنى مزيداً ممّا لا يمكن حصره من الصور الجديدة الواقعية فيجعله بذلك (غياب حضور) فيها، باعتبارها وعاء الرموز الدالة وماهيتها المستوحاة من الوعي إنسانياً، في آن معاً.
إن الإبداع، بما هو تعبير ذلك كله متجلياً في لغة ولون وحركة جسد وصوت، يحول بين التحقق المتجدد باستمرار للمعنى وبين تثبيته في لحظة من الزمن- أي أنه يحول دون تزمُّنِه كما يقال- ويطلقه في الزمان الواسع شبه المطلق نحو مقاربة اللامحدود، فكأنما هو يهدمه ويبنيه باستخدامه كي لا يصير الزمن مجرد توالٍ ميت للَّحظات، بل ليكون مجرى حاملاً لحلم البشرية بالخلود عبر تدفقه المستمر الذي لا يكون إلا بعدم هدر المعنى.
ثمة إذا ما يجب أن يقال دون لبس، وهو:
إن الثبات محال وأن محاولة التثبيت خيانة.. خيانة لا للمعنى أو للتركيب الذي نعتقد أنه غائي في طبيعة التكوين الإنساني، بل هو خيانة لتطلعات الروح والعقل وهما يقاربان إثبات "حقيقتيهما" وانعدام قابليتهما للتبدد في مواجهة العدم، كما أنه خيانة للامحدود/ واجب الوجود وهو يمسك بالمحدود كي يعينه على الوصول إلى أقصى غايةٍ لإمكانية التفتح.
وبالطبع، لا نهدف من هذا "التفلسف" إلى تجاهل حقائق الصراع في التركيبة الحضارية البشرية: لا ماضياً ولا راهناً ولا مستقبلاً، فتلك الحقائق هي محور إمساك اللامحدود بالمحدود.. لكننا أردنا الكشف عن قيمة الإبداع في عمليات الوجود البشري واستمراره أولاً، وعن وجود عدم هدر المعنى في الإبداع ثانياً وأخيراً.