ان عـمـر بـن الخطاب قال لابن مسعود ولابي الدرداء ولابي ذر: ما هذاالحديث عن رسول اللّه ؟! احسبه حبسهم بالمدينة حتى اصيب ((406)) .
وفـي مـخـتصر تاريخ دمشق : ان عبدالرحمن بن عوف قال : ما مات عمربن الخطاب حتى بعث الى اصحاب رسول اللّه فجمعهم من الافاق : عبداللّه ,وحذيفة , وابو الدرداء, وابو ذر, وعقبة بن عامر, فقال : ما هذه الاحاديث التي افشيتم عن رسول اللّه في الافاق ؟ قالوا: تنهانا؟ قـال : لا, اقـيـمـوا عندي , لا واللّه لا تفارقوني ما عشت , فنحن اعلم ,ناخذمنكم ونرد عليكم . فما فارقوه حتى مات ((407)) .
ان جـمـلة : (اكثرتم عن رسول اللّه ) وكذا: (افشيتم عن رسول اللّه في الافاق ) لتؤكد على ان في نقل الاحاديث عن الرسول توعية للمسلمين ,واحراجا للخليفة في ظروفه الخاصة , لانه قد حدد ما اخـذه عـلـيـهـم بـانـه بـآ(الاكـثـار) و(الافـشاء) لا الكذب والبهتان , فالافشاء يساوق تخطئة الـخليفة ,خصوصا اذا كان الكلام الصادر عن رسول اللّه ظاهرا صريحا, وتتضح هذه الحقيقة اكثر لو امعنا النظر في جواب عمر بن الخطاب لابي بن كعب : فقال ابي : يا عمر, اتتهمني على حديث رسول اللّه ؟ فـقـال عـمـر: يا ابا المنذر, لا واللّه ما اتهمك عليه , ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول اللّه ظاهرا ((408)) .
وقوله للصحابة : (اقلوا الرواية عن رسول اللّه الا فيما يعمل به ) ((409)) ,وسرالمنع في النص الاول واضح كوضوح الشمس في ان الخليفة كان لا يريدان يكون الحديث ظاهرا لئلا يظهر الخلل والعوز الفقهي في دولته .
وكـذا تـقـيـيده بـ (ما يعمل به ) يعني جواز نقل الاحاديث المشهورة المعمول بها بين المسلمين في الاحكام وغيرها, مما هو شائع يعرفه الخليفة كمايعرفه غيره من المسلمين .
وامـا نـقـل الاحـاديـث التي لا يعرفها او ربما لا يعرفها الخليفة , فلا يجيزتناقلها, لامكان حدوث الـتـخالف بينها وبين اجتهاده مما سيؤول الى ايجادمشكلة في جهاز الحكم الذي يفرض فيه ان يكون مقوما ومرجعافقهياللامة الاسلامية .
ولاجـل كل هذا قال للصحابة : (اقيموا عندي , لا واللّه لا تفارقوني ماعشت , نحن اعلم , ناخذ منكم ونرد عليكم ).
بـهـذا اتـضح ان الخليفة كان لا يرتضي التحديث بالرواية , كما ان الصحابة او الكثير منهم كانوا لا يـرتضون ما ذهب اليه , وهذا - كما ترى - مغايرلما عمد البعض الى اشاعته من ان الخليفة قد نهى عن التدوين حسب .
ومن ثم هنا الى قائمة الاسماء, اسماء آخرين قد خالفوا الخليفة في رايه ,هم : 25 - ابو الدرداء.
26 - ابو مسعود الانصاري .
27 - عقبة بن عامر.
ولا نـريـد هـنـا الـتـفصيل في هذه الاسماء, آملين ان نلتقي مع القراء في دراستنا عن (السنة بعد الرسول ), لكي يقفوا على اسماء هؤلاء على نحوالتفصيل , وكذا على فقههم , وعند ذلك يتجلى للقارى ان هؤلاء الصحابة لاينحصر عددهم بثلاثة عشر, كما زعم ذلك ابن حجر.
آراء متضاربة :هفوة وتهافتات : سئل ابن عباس : عن رجل توفي وترك بنته واخته لابيه وامه .
فقال : ليس لاخته شي ء, والبنت تاخذ النصف فرضا, والباقي تاخذه ردا.
فقال السائل : فان عمر قضى بغير ذلك .
فقال ابن عباس : اانتم اعلم ام اللّه ؟ قال السائل : ما ادري ما وجه هذا حتى سالت ابن طاووس [اليماني ],فذكرت له قول ابن عباس , فقال : اخـبـرني ابي انه سمع ابن عباس يقول : قال اللّه عز وجل (ان امرؤ هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك ) فقلتم انتم : لها نصف ما ترك وان كان لها ولد ((410)) .
ان عـمر كان قد ساوى في الميراث بين بنت الميت واخته لابيه وامه ,لان البنت - حسب نظره - لا يـصـدق عـلـيها حقيقة الولد, كما هو المعروف في الجاهلية الاولى . والمعلوم ان هذه الرؤية تخالف صـريـح الـقـران الـعـزيـزلـقـولـه عـز وجـل (يـوصـيـكم اللّه في اولادكم للذكر مثل حظ الانـثيين ) ((411)) .فدلت هذه الاية على ان البنت ولد بالمفهوم القراني والعرفي والحقيقي , ومع وجـود الـولد لا تاتي رتبة الاخوة والاخوات في الارث ,لقوله تعالى (وهو يرثها ان لم يكن لها ولد, فـان كـانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين اللّه لكم ان تضلوا واللّه بكل شي ء عليم ) ((412)) .
وهو يعني كذلك ان الاخوة والاخوات لا حق لهم في الارث مع وجودالولد .
وللخليفة راي آخر في عول الفرائض خالفه فيه ابن عباس : قـال عـمر: واللّه ما ادري ايكم قدم اللّه وايكم اخر, وما اجد شيئا هواوسع من ان اقسم عليكم هذا المال بالحصص .
فقال ابن عباس : وايم اللّه , لو قدمتم من قدم اللّه واخرتم من اخر اللّه ماعالت الفريضة ((413)) .
وحـكـم فـي امـراة مـاتت عن زوج وام واخوين لامها دون ابيها, واخوين لامها وابيها معا بحكمين مختلفين : قضى في المرة الاولى باعطاء زوجها فرضه - وهو النصف - واعطاءامهافرضها - وهو السدس - واعطاء اخويها لامها خاصة الثلث الباقي , فتم المال واسقط اخواها الشقيقان .
وفـي المرة الثانية اراد الخليفة ان يحكم كما حكم سابقا, فقال له احدالشقيقين : يا امير المؤمنين , لنا اب ولـيـس لهم اب , ولنا ام كما لهم , فان كنتم حرمتمونا بابينا فورثونا بامنا كما ورثتم هؤلاء بامهم , واحسبوا ان ابانا كان حمارا, اوليس قد تراكضنا في رحم واحد؟ فـقال عمر عند ذلك : صدقتم , فاشرك بينهم وبين الاخوة لام في الثلث الباقي ((414)) , وفي رواية اخرى : لو كنت حجرا ملقى في اليم , فاشركنا في قراء امنا, فاشرك بينهم بتوزيع الثلث على الاخوة الاربعة بالسواء.
فقال له الرجل : انك لم تشركهما عام كذا.
((415)) واخرج الشافعي في الرسالة , وابو داود والبيهقي عن طاووس : ان عمر(رض ) قال : اسمع امرؤ عن رسول اللّه في الجنين شيئا؟ فـقـام حمل بن مالك بن النابغة , فقال : كنت بين جاريتين لي [يعني ضرتين ] فضربت احداهما الاخرى بمسلح , فالقت جنينا ميتا, فقضى فيه رسول اللّه بغرة .
فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا, ان كدنا ان نقضي في مثل هذا براينا ((416)) .
قال عبيده السلماني : لقد حفظت لعمر بن الخطاب في الجد مائة قضية مختلفة ((417)) .
وعـلـق الدكتور محمد سلام مدكور على امر عمر في الجدة بقوله :...ولكن عمر كان يابى الا ان يـكـون الـجـد اولى من الاخوة , ويقول : لواني قضيت به اليوم لقضيت به للجد كله , ولكنه اتجه الى الـعـدول عـن رايـه وقـال :لـعـلـي لا اخيب منهم احدا, ولعلهم ان يكونوا كلهم ذوي حق . ثم عدل مـرة اخـرى الـى المقاسمة بشرط الا تقل عن السدس . ثم عدل الى المقاسمة بشرط الا تقل عن الثلث على ما ذكرنا. وما كان هذا الاختلاف وعدم الاستقرار في الراي الا لان المسالة اجتهادية صرفة لم يرد فيها نص يبين الحكم بوضوح .
ونـسـتـطـيع ان نتبين من هذا الحوار الذي تم بين زيد بن ثابت وعمرابن الخطاب هو استعمال زيد اسلوبا في التشبيه البليغ يقرب رايه الى العقل والامتناع ((418)) .
وقال الدكتور محمد رواس قلعه چي بعد ان اتى بكلام عبيدة السلماني والاية الكريمة (ولابويه لكل واحـد مـنـهما السدس مما ترك ان كان له ولد) ((419)) وقوله : (فان لم يكن له ولد وورثه ابواه فـلامـه الثلث ) ((420)) ..قال : يفهم منه ان الباقي للجد ((421)) . وكان عمر يلاحظ اضطرابه فـي قـضية ميراث الجد مع الاخوة , فاستشار الصحابة في شانه اكثر من مرة , ولكنه لم يصل فيه الى قرار حاسم . وقبيل وفاته احب ان تستقر الامور في الجدعلى شكل ما,حتى لا يترك الامر فوضى , فكتب في الجد والكلالة كتابا,ومكث يستخير اللّه ويقول : اللهم ان علمت فيه خيرا فامضه , حتى اذا طـعن دعا بالكتاب فمحاه , فلم يدر احد ما كان فيه فقال : اني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت استخيراللّه فيه فرايت ان اترككم على ما كنتم عليه ((422)) .
وعـلـق الـسـيـوطي في الاشباه والنظائر على اجتهادات عمر في الجدة بقوله : وعلته انه ليس الاجـتهاد الثاني باقوى من الاول , فانه يؤدي الى انه لايستقر حكم , وفي ذلك مشقة شديدة , فانه اذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرا ((423)) .
القول : باجتهاد النبي (ص ) فاتضح اذا - على ضوء النصوص السابقة - اضطرارهم الى اتخاذالاجتهاد كمنطلق حتى يمكن على ضـوئه تـبرير اختلاف وجهات النظر بين الصحابة بل بين فتاوى الخليفة نفسه او الصحابي الواحد نـفـسـه , لانـه الـغـطـاء الـذي يـمـكـن ان يـحـتـمـي بـه الـداعـون الـى مدرسة الخلفاء, لرفع التضادوالتناقض الموجود بين فقه الصحابة .
لكننا نريد ان ندرس القضية من جذورها, ومن منطلق اكثر عقلانية وواقعية , لنرى هل ان الرسول كان يجتهد في الاحكام حقا, ام ان ما نسبوه اليه (ص ) جاء لتصحيح اجتهادات الصحابة ؟ وهـل يعقل ان يتخذ الرسول الاجتهاد وسيلة للوقوف على حكم السماء,وهو المامور بتبيين الاحكام للناس , وهو رسول رب العالمين ؟ ولـو سمح له (ص ) بالاجتهاد, فلم يتوقف في معرفة حكم اللعان ((424)) ,وميراث الخال والعمة ((425)) ؟ والم يكن الاجتهاد هو مما يحتمل الخطا فيه , ولا يفيد الا الظن ؟ واذا كان الرسول بمقدوره الحصول على اليقين , فكيف يعمل بالظن مع مقدرته على تحصيل اليقين يـضاف الى ذلك القول : ماذا نفعل بالايات الاخرى الامرة بلزوم اتباع كلام رسول اللّه , كقوله تعالى : (مـا اتـاكـم الـرسـول فـخذوه , وما نهاكم عنه فانتهوا)وقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يـحـكـمـوك فيما شجر بينهم ...)؟ الـخـطـا فـيـه , فكيف يوجب سبحانه اتباع الظن والخطا في احكامه ؟ الظن بقوله : (ان الظن لا يغني عن الحق شيئا)؟ بـلى , ان الاصرار القول باجتهاد الرسول , انما صير اليه لتصحيح اجتهادات الصحابة , ومنحها السمة الـمـشروعة , وعلى الاخص فتاوى الشيخين . ومن يقراالتاريخ والحديث بروح مجردة يقف على ما نـقـول . وانـك لـو تـمـعـنـت فـيـمـااسـتدل به علماء الاصول من اتباع مدرسة الراي على اجتهاد الـرسول ,وماذكروه من ادلة لعرفت ان السر فيه انما هو الاشارة الى الاخطاء التي نسبهابعضهم اليه (ص ) في مقام التشريع ثم لو كانت اقواله (ص ) وافعاله , نابعة من اجتهاداته (ص ) المسموح به حسب فرضهم , فلماذا نرى غالب تصريحاتهم وتلويحاتهم توحي بان النبي تخلف عن اوامر اللّه - كما في صلاته على المنافق - وتخلف عن الضوابطالانسانية كما نرى عبوسه عند مجي ء الاعمى عبداللّه بن مكتوم ...وغيرها مما نـسـبـوه الى النبي الاكرم (ص ), حتى اجترا الزمخشري ان يقول في تفسير قوله تعالى (عفا اللّه ((426)) انظر الى كلام الزمخشري هذا كيف به يتطاول به على ساحة النبوة المقدسة ؟ نـعم , ان القوم بمثل هذا القول فيما يتصل برسول اللّه (ص ), في حين يؤكدون ان الوحي كان يوافق عـمر في كل تلك القضايا التي اخطا فيها النبي (ص ), وان النبي قد شهد له بذلك . اترك القارى ليفهم مغزى هذه النصوص وسر تخطئة الرسول (ص ) وسلامة راي عمر وموافقة الوحي له دون النبي ولـو تـنـزلنا وقلنا ان النبي بشر, له ملكات ربانية , وان غالب اموره الدنيوية كانت تصدر بقرار من نـفسه وليس لها ارتباط بالوحي , بمعنى انه (ص )لو قال لاحد: كيف انت ؟ لا يعني انه قالها له امتثالا لامـر الـباري ,وكذاقوله :ماذا تاكل ؟ او: اذهب الى فلان لاخذ الحاجة الفلانية حاجة , اوائتني بماء فاني عطشان , ومثلها مزاحه مع ازواجه والمؤمنين , وغيرها من متطلبات الحياة العامة ..
وكـذا الـحـال بـالـنـسـبـة الى حروبه , فكان (ص ) يشاور الصحابة , كما في مصالحة غطفان يوم الـخـنـدق ((427)) , والخروج الى احد ((428)) , واخذه براي سلمان الفارسي في حفر خندق حول المدينة في غزوة الاحزاب ((429)) , وكذااخذه (ص )براي حباب في النزول عند الماء في غزوة بدر, وبقول سعد ابن معاذفي بناء عريش بدر ((430)) وغيرها من المفردات ..
فـلـو سلمنا كل هذا واعرضنا عن ان النبي (ص ) كان يفعل كل ذلك ويتكلم به بامر اللّه وبما يوافق مـراد الـباري سبحانه وتعالى , وانه كان يشاوراصحابه استطابة لنفوسهم وتعليما لهم على الحنكة والـتـدبـير, ثم يجزم هو (ص )بما اراه اللّه بما هو في صالح المسلمين , وماهو مراد اللّه سبحانه وتعالى . اقول :لوسلمنا كل ذلك لكنا نقول : ان هذه القضايا هي مواقف في امور الحرب والموضوعات الخارجية ,وهي ليست كاجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب , اذ ان غالب ماذهب اليه كان في الاحكام الشرعية وليس شي ء منها في الموضوعات الخارجية ان عقل النبي هو اكبر عقل وادركه للواقع , فان اجتهاده جاءبعدالمامه بالمصالح والمفاسد والمقدمات والنتائج , وكان ذلك موافقا لحكم اللّه الواقعي , واين هذا من اجتهاد غيره ؟ نعم , انهم بطرحهم هذه الرؤية كانوا يريدون مساواته (ص ) مع الصحابة لتعميم الامر عليهم , ولكي يرفعوا به التخالف الموجود بين اقوالهم ,وليخلصوا الى القول : انها اجتهادات هؤلاء كاجتهادات النبي بيد ان ما لاريب فيه - كما يشهد الجميع - ان ما يسمى باجتهاد النبي هوغير اجتهاد الصحابة , فالنبي لـو ارتـضينا انه مجتهد لم يكن يجتهد الا في الموضوعات وامور الحرب والاقضية , وذلك لا يعني انه (ص ) كان يجتهدفي الاحكام كذلك .
وامـا الـعـمل بالوظيفة الظاهرة فانه لا يعني الاجتهاد بمعناه المعروف اليوم لان قوله (ص ): انما احـكـم بالظاهر وانكم تختصمون , الي ولعل احدكم الحن بحجته من بعض , فمن قضيت له بشي ء من مـال اخـيـه فلا ياخذه , فانما قطع له قطعة من النار ((431)) , يعني ان على الحاكم ان يحكم طبق ظاهر الادلة المطروحة , لا على البواطن , والواقع وان كان منكشفا له (ص ) انكشافا تاما,اذالانبياء والـرسـل والاوصياء كلهم مامورون ان يحكموا بالظاهر الا من كلفه اللّه بالحكم الواقعي كالخضر (ع ).
هـذا, وقـد عـرف عن رسول اللّه انه كان يحكم بين الناس في المدينة ,وفي هذا ما يفهم منه انه كان يـحـكـم طبق الادلة والموازين . وفي هذا ما يعني -بمالا مجال للشك فيه - انه لا يجوز الا الحكم بالظاهر لكي لا تنخرق نواميس الشريعة والقوانين البشرية التي جرت عليها سنة الخلق .
ان الـنـبـي (ص ) ـ لاتـصـالـه بـالوحي انما كان يعرف حكم الشرع , وذلك لمعرفته بما في اللوح الـمحفوظ, لان من الثابت عند المسلمين نزول القران مرتين : نزل في الاولى كاملا ليلة القدر, ونزل فـي الـثـانـيـة نجوما في الوقائع والاحداث المختلفة , فقد يكون ما افتى به النبي هو لما عرفه من اللوح المحفوظ وان لم تنزل عليه - بالتنزيل الثاني - آية صريحة لحد ذلك التاريخ .
وكـذا الـحـال بـالنسبة الى ما قالوه في تمني رسول اللّه تحويل القبلة الى المسجد الحرام , فلو كان اجـتهادا منه لحولها ولما ظل ستة اشهر او سبعة يصلي اليها وان قوله تعالى : (قد نرى تقلب وجهك ) هو لاجل انتظاره للوحي وتعبده بامر السماء, لا اتيانا منه (ص )بحكم يخالف شريعة اللّه .
وامـا الاسـتدلال به على اجتهاد الرسول بقوله تعالى : (انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بـمـا اراك اللّه ) وتـفسيرهم (بما اراك ) بمعنى :بواسطة نظرك واجتهادك في ادلة الاحكام .. فانه تـفـسـيـر خـاطى ء ومـخالف لظاهرالاية , لان قول الاية -وبقرينة السياق (انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك اللّه ) صريحة بان معناه هو لزوم استقائك الحكم من الكتاب لا اجتهادا من عند نفسك وامـا انـصار مدرستهم من الصحابة , فكانوا يريدون تعميم اجتهاداتهم حتى على الاحكام الشرعية , وذلك -بالطبع بعد عصر رسول اللّه . لانهم في عصر النبي كانوا يسعون ان تكون الاحكام مستوحاة مـن الـنـص ومـن كـلام الـرسـول بل كان النبي يردعهم عن الراي , لانه المرجع المصحح لما قد يقعون فيه من الاخطاء, لكنهم وبعد وفاته (ص ) اجتهدوا, فيما فيه نص وفيمالانص فيه .
ان رفـع الامـور في عهد النبي اليه (ص ) واستماعهم لقوله (ص ) يعني ان حكمهم قد امضي من قبل الشارع , وصار حجة بامضاء النبي , فالحجة فيه امضاءالنبي لا قول الصحابي فـلو كان الاجتهاد بالراي في عهده (ص ) حجة - كما هو المصطلح اليوم فلماذا الزم اسامة ان يدفع دية الرجل الذي قتله اجتهادا منه ؟ وقد مر عليك سابقا كلام الدكتور مدكور اذ قال : (... ان الرسول على مقتضى هذه النظرية نفسها لم يـكـن بـحـاجة الى هذا المعنى من الاجتهاد,والسياسة ... اما بعد انتقال الرسول من الحياة الدنيا وفي عصر الصحابة الذي ينتهي بنهاية القرن الهجري الاول فقد عرضت لهم ...).
وقـال الـدكـتـور معروف الدواليبي : (لا جديد في الغالب من احداث لم يالفها ووقائع لم يتخرج في احكامها, على نحو ما في الكتاب والسنة من حكم وارشاد .
وهـذا يـعني ان الاجتهاد في اثناء حياة النبي لم يلعب دورا هاما ذا شان ,بل بقي ضمن نطاق من القضايا محدود, وعدد منها معدود) ((432)) .
وقـالت الدكتورة نادية العمري : (حتى لقد كان يقترح (عمر) من التشريعات في عهد رسول اللّه ما يـراه مـتـفـقا مع الفضيلة والحق والمصلحة ) ((433)) وهذه الكلمات تعضد ما توصلنا اليه من ان الاجتهاد - بمعناه اليوم - لم يكن في زمان النبي (ص ) وانما نشا في وقت متاخر على يد الشيخين ومن سار مسيرهما, وان انبثاقه كان لحاجتهم الى الاحكام عدم احاطتهم بجيمع الاحكام ووجوه الاستدلال فيه .
والان نـعود الى صلب البحث لكي نعرف موقف الخليفة عمر بن الخطاب من الصحابة ونعرف موقفهم مـنه . وقد استبان لك موقفه من ابن مسعود وهو الصحابي الذي ارسله مع عمار الى الكوفة ليعلماهم امـور الدين ,وقوله لاهل الكوفة -لما ارسلهما اليهم : انهما من النجباء من اصحاب محمدمن اهل بدر, فـاقـتـدوا بـهما واستمعوا من قولهما, وقد اثرتكم بعبداللّه بن مسعودعلى نفسي ((434)) . وكذا موقفه مع غيره من الصحابة .
نـعـم , عمد الى صحابي جليل كابن مسعود فحبسه وحاسبه على نشره حديث الرسول واكثاره منه , وهـذا الموقف من الخليفة عمر هو الذي جرا عثمان ان يتخذ موقفا اشد من موقفه ازاء ابن مسعود, فـمـنـعه من التحديث , ونهاه عن قراءة مصحفه - ورسول اللّه يؤكد: (اقرؤوا بقراءة ابن ام عبد), يعني :ابن مسعود- وجلده اربعين , سوطا حتى ال الامر به ان يموت ويدفن غريبا ان الخليفة عمر بن الخطاب قد اتخذ هذه السياسة ازاء الصحابة , لانه ادرك مواقفهم من فقهه , وعلم انـهم لا يرتضون اجتهاداته المخالفة لسنة رسول اللّه وانهم ما يزالون ويعترضون عليها. وبلغ الامر ببعضهم ان يعمد الى اختبار فهم الخليفة امام المسلمين لاعلامهم ان اجتهادات عمر خاطئة ,بعيدة عن السنة .
الصحابة واختبارهم الخليفة واليك نصين في ذلك : الاول : عـن الـحـارث , عـن عبداللّه بن اوس , قال : اتيت عمر بن الخطاب ,فسالته عن المراة تطوف بالبيت ثم تحيض ؟ قال : ليكن اخر عهدها الطواف بالبيت .
قال الحارث : فقلت : كذلك افتاني رسول اللّه .
((435)) ؟ الـثـانـي : عن هشام بن يحيى المخزومي : ان رجلا من ثقيف اتى عمربن الخطاب , فساله : عن امراة حاضت , وقد كانت زارت البيت يوم النحر:الها ان تنفر قبل ان تطهر؟ قال عمر: لا.
فقال له الثقفي : فان رسول اللّه افتاني في هذه المراة بغير ما افتيت به ((436)) ؟ والجدير بالذكر هنا هو استخدام لفظة الافتاء في هذا العهد, وان الخليفة قد قالها عن النبي كذلك , فـي حـيـن نـعـلـم بـوجود فرق بين الرسالة والفتوى , ان الفتوى تقبل النسخ من حيث الجملة في جنسيهما, واماالرسالة فهي لا تقبل النسخ بان تكون خبرا صرفا ((437)) .
وكـانـه راح يـوسع فكرة الاجتهاد ـالتي راى فيها علاج كل شي ءباقصى مايملك من قدرة , حيث لم يـمـكـنه القول بمشروعية رايه وارتقائه الى مرتبة قول الرسول الا بعد المرور بعدة مراحل , كان بـدؤهـا الـقـول بان النبي كان من المجتهدين وان بعض احكامه قد صدرت عن راي , وبذلك قدتنزلت اقـواله (ص ) الى مرتبة غيره من المجتهدين , بحيث يمكن مضاهاتهامن حيث امكان الاخذ والطرح , وهذا من اعجب العجائب .
ولـو دققت النظر في خبر ابن مسعود الانف الذكر, الذي ارسل فيه من يساله عن اخت له سبيت في الجاهلية فوجدها ومعها ابن لها, لا يدرى من ابوه ,فاشتراهما ثم اعتقهما, فاصاب الغلام مالا ثم مات ؟ فقال له ابن مسعود: ائت , عمر ثم ارجع الي فاخبرني بما يقول لك .
فـاتـى الـرجل عمر فذكر له (المسالة ), فقال عمر: ما اراك عصبة ولابذي فريضة , ولم يورثه .
فـرجـع الى ابن مسعود فاخبره , فانطلق ابن مسعودمعه حتى دخل على عمر, فقال : كيف افتيت هذا الرجل ؟ قال : لم اره عصبة ولا بذي فريضة ... الخبر ((438)) .
لـعـرفت ان الشك في سلامة فقه عمر بن الخطاب كان امرا مطروحا عندالصحابة , واني بطرحي هذه النصوص لا اريد الذهاب الى مشروعية اختبارالمسلم وجواز السؤال عن الشي ء تعنتا وتجربة له , فهناك نصوص كثيرة دلت على ذم سؤال المختبر المتعنت : فـعن علي بن ابي طالب : سل تفقها, ولا تسال تعنتا, فان الجاهل شبيه بالعالم , وان العالم المتعسف شبيه بالجاهل المتعنت ((439)) .
وقوله : الناس منقوصون مدخولون الا من عصم اللّه , سائلهم متعنت ومجيبهم متكلف ((440)) .
لـكـن الـصحابة - على رغم وقوفهم على النصوص الذامة للسؤال اختبارا-كانوا ينزعون الى هذا الـلـون مـنه في تعاملهم مع الخليفة , لانهم يجدون فيه اسلوبا للخروج من الازمة التي هم فيها, ولان تـكـرار مـواقـفـهـم هـذه من الخليفة من شانه ان يبصر الاخرين بان فقه عمر لا يتطابق في كثير مـن الاحـيان مع ما وردعن رسول اللّه , سواء اعلم الخليفة بورود نص آخر يخالف ما افتى به , ام لم يعلم بورود شي ء فيه اصلا.
وكـذلك لايقاف المسلمين على عدم امتلاك الخليفة عمر دورا في التشريع وليست له القدرة الكافية على استنباط الاحكام من الكتاب العزيزبحيث يكون رايه الكتاب والسنة في هذا الشان .
ويـبـدو لـي ان اثـارة الـصحابة لهذه القضايا وتكرارهم السؤال عنها, لم يعنوابه المساس بشخصية الـخليفة بقدر ما كانوا يريدون به الدفاع عن حياض التشريع الاسلامي وايقاف الاخرين عن ادخال الاراء في الشريعة .
اذ الثابت عن الصحابة انهم كانوا لا ينالون من الشيخين ولايستهينون بهما, وان اختلفوا معهما, وذلك باعتبار تصدرهما امرالخلافة وقيادتهما امور الامة الاسلامية .
وكـان صـغار الصحابة الذين ليسوا من علية الفقهاء ياخذون باقوالهما,لمااعتادوا عليه من الاخذ في عـهـد رسـول اللّه من رسول اللّه قائدا ومشرعا,فجروا على ذلك المنوال في الاخذ, فاخذوا عن الشيخين باعتبار مقام الخلافة .
وقـد اسـتبان لك بجلاء تخالف وجهات النظر بين عمر وكثير من الصحابة في الاحكام , وتبين هذا التخالف حتى بين فتاوى الخليفة نفسه في الواقعة الواحدة , وكان من الطبيعي ان يؤثر هذا التخالف في الاحكام الشرعية فيما بعد.
مـن هـنا عمد بعض الصحابة - تفاديا لاختلاط الاحكام الاجتهادية الصادرة عنهم بالاحكام النبوية - الـى ضـرروة الـفـصل والتمييزبينهما,لكيلا يقع المسلمون في حرج حين الاخذ, لان الخبر الذي يصدر عن اجتهادهو غير الذي يصدر عن وحي , فسموا احكامهم بالاجتهاد وما صدرعن النبي بالسنة . وكان بعضهم يصرح بانه ما يقوله من نفسه وليس ماثوراعن سنة النبي (ص ) .
قـال الدكتور مدكور: ومن الطبيعي ان الاجتهاد بالراي يترتب عليه اختلاف وجهة النظر والتفاوت في الفتاوى والاحكام ((441)) .
قـال ايـضـا: وان اجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس , وانما شمل كل وجوه الراي . عمدتهم في ذلك الـبـديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع مع وعي كامل للاساس العقلي الذي يقوم عليه الراي , والدور الذي يؤديه في اظهار الاحكام الشرعية ((442)) .
تضارب الاراء وتاثيره على الفقه علل بعض الكتاب والباحثين اختلاف نظر الصحابة - اضافة لما سبق -بتفاوتهم في العقل والادراك والـمناهج , متناسين منطلقات الخليفة ومتطلبات الوضع العام في الدولة الاسلامية , اذ الجميع يعلم ان الاخـتـلاف بـين المسلمين لم يقع في حجية الكتاب او السنة , بل الكلام هو في المنسوب الى رسول اللّه :هل هو حقا سنة رسول اللّه لكي يجب اتباعه ام لا؟ وهل انه وضع لتاييد المذهب الفلاني والخليفة الفلاني ام ليس له ارتباطبذلك , بل هو بيان محض ؟ ويـبـدو ان اخـتـلاف الـنـقـول عن الصحابة في الاحكام له مفهوم اخر,قالوه من انه نتيجة طبيعية للاجتهاد, ذلك ان الاختلاف يشير الى تخالف الاتجاهات الحاكمة آنذاك وليس هو اجتهاد راي ـكما يقولون .
فلناخذ البسملة مثلا, فلو راجعت كتب الصحاح والسنن لرايت الاقوال فيها مختلفة حتى عن الصحابي الـواحـد, فـتارة يروون عن انس انه جهربالبسملة ,واخرى يروون عنه انه قال : لا تجهروا, لاني صـلـيت خلف ابي بكر وعمر فكانالا يجهران , وتارة ثالثة يذكرون حكما آخر يختلف عن سابقيه ..
وهكذا.
وقد اشار الفخر الرازي الى الاراء الاربعة المنسوبة الى انس , ثم قال :فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية , وثلاث اخرى تناقض قولهم : احـدهـا: ما ذكرنا من ان انسا روى ان معاوية لما ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلاة انكر عـليه المهاجرون والانصار, وقد بينا ان هذايدل على ان الجهر بهذه الكلمات كالامر المتواتر فيما بينهم .
وثانيها: روى ابو قلابة , عن انس : ان رسول اللّه وابا بكر وعمر كانوايجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم .
وثالثها: انه سئل عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم والاسرار به , فقال :لاادري المسالة .
فثبت ان الرواية عن انس في هذه المسالة قد عظم فيها الخبطوالاضطراب فبقيت متعارضة , فوجب الرجوع الى سائر الدلائل . وايضاففيهاتهمة اخرى وهي ان عليا (ع ) كان يبالغ في الجهر بالبسملة , فـلـماوصلت الدولة الى بني امية بالغوا في المنع من الجهر, سعيا في ابطال اثارعلي (ع ) , فلعل انسا خـاف مـنهم , فلهذا السبب اضطربت اقواله منه . ونحن وان شككنا في شي ء فانا لا نشك انه مهما وقع الـتـعـارض بـين قول انس وابن المغفل وبين قول علي بن ابي طالب الذي بقي عليه طول عمره , فان الاخذبقول علي اولى . فهذا جواب قاطع في المسالة ((443)) .
كان هذا هو كلام الفخر الرازي , وهو يوضح دور الحكومة في اختلاف الاحكام الشرعية .
وهـكذا الحال بالنسبة الى حكم ارسال اليدين , فترى البعض ينسب الاسبال الى رسول اللّه , والاخر يـنـقـل عـكسه عنه (ص ), وهذا يقول ان رسول اللّه قد وضع يديه الواحدة على الاخرى والاخر يقيدها بفوق السرة , وثالث يقيدبقيد اخر, او يطلقها دون قيد.
وجاء عن القاسم بن محمد انه قال في القراءة : ان تركته فقد تركه ناس يقتدى بهم , وان قراته فقد قرا ((444)) وهذا يوضح امتداد الخطين ووجود كلا الاتجاهين بين الصحابة والتابعين , وكلهم ممن يقتدى بهم اتضح اذا ان اختلاف نقول الصحابة بهذه السعة - وخصوصا في المسائل التي خولف فيها اهل البيت - يوحي بوجود خطين في الشريعة : 1اهل البيت طائفة من الصحابة يؤكدون على جزئية البسملة , ولزوم الجهر فيها.
2اخرون لا يرون ذلك .
وكـذا الـحـال بالنسبة الى التكفير والاسبال في الصلاة فنلحظ نصوصالكلاالخطين , ومثله سائر الاحكام الشرعية , فاختلاف النظر بين الصحابة يرجع الى جذور عميقة واصول مبتناة عند بعضهم , وهـذا يـسـتـنـد الى ما صح عنده من حديث رسول اللّه , والاخر الى ما افتى به كبار القوم واجتهده فـي قـول وفـعل رسول للّه . ومن يقول بعدم جواز التامين لا يعني بكلامه انه اجتهدفي ذلك , بل ان له اصـلا تـمـسك به في نفي ذلك , وكذا الحال بالنسبة الى من يقول بجزئية البسملة فله اصل في ذلك , وهكذا الامر بالنسبة الى سائر الاحكام الشرعية التي خولف فيها اهل البيت .
وعـلـيـه فـان اختلاف راي الصحابة في الاحكام انما مرده يرجع الى مالهم من اصول وادلة , وليس جـميعها اجتهادات منهم , وخصوصا في المسائل التي اتفقوا فيها مع مدرسة اهل البيت , وبعد هذا كيف يـتـانـى لاحـد القول ان تلك الروايات هي روايات ضعيفة دخلت الفقه من قبل الزنادقة , وما الى ذلك من اقوال لا تعضدها حجة ولا تقوم على دليل .
ان الـصـحابة بتكرارهم مساءلة الخليفة كانوا يريدون تبصير الاخرين بان هناك اتجاها يتخذ الراي قـبـال النص , عند عدم الحصول على النص والعوزاليه . فمن شاء فليؤمن بالتعبد بالقرآن والحديث , ومن شاء فليعكف على اتخاذ الراي والتضحية بالنص .
ولـنـطبق حكم المراة التي حاضت بعد ان زارت , فهل تنفر حكمها ان قبل ان تطهر ام لا تنتظر, كما افتى الخليفة عمر بن الخطاب ؟ لـقـد امـر عـمـر بن الخطاب المراة التي حاضت ان تنتظر حتى تطهر من حيضتها فتطوف طواف الوداع , ولم يرخص لها الذهاب قبل ذلك ((445)) .
والمعروف عن زيد بن ثابت وابن عمر انهما قد تاثرا براي الخليفة وافتيابما قاله في هذه المسالة .
لـكـن زيـدا ((446)) وابن عمر ((447)) قد عدلا عن رايهما. وقيل : ان عمر قدترك صنيعه الاول , ولـعـل سبب ذلك هو الحديث الذي بلغه -ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : حاضت صفية بعد ما افاضت , اي طافت طواف الافاضة .
قالت عائشة , فذكرت حيضتها لرسول اللّه , فقال رسول اللّه : احابستناهي ؟ قلت : يا رسول اللّه , انها قد كانت افاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعدالافاضة .
فقال رسول اللّه , فلتنفر.
او لحديث اخر ((448)) .
وامـا مـا كتبه زيد الى ابن عباس فجاء فيه قوله : اني وجدت الذي قلت كماقلت , فقال ابن عباس : اني لاعلم قول رسول اللّه للنساء, ولكني احببت ان اقول بما في كتاب اللّه , ثم تلا الاية (ثم ليقضوا تفثهم ولـيـوفـوا نـذورهـم ولـيـطـوفـوا بـالـبـيـت الـعتيق ) فقد قضت التفث , ووفت النذر, وطافت بالبيت ,فمابقي ((449)) ؟ وفـي كـلام ابـن عـبـاس ما يشعر بان المنقول عن رسول اللّه ذو اصل في الكتاب العزيز الذي دعا الـخـلـيفة الناس الى الاخذ به بقوله : (حسبنا كتاب اللّه ),فكان موقف ابن عباس من هذه القضية هو الزام عمر بما يقوله , وكان زيدبن ثابت قد اخبر بان ما ذهب اليه الخليفة هو مخالف للكتاب العزيز.
على ان بروز ظاهرة استدلال الامام علي والحبر ابن عباس - بكثرة كاثرة - على الاحكام المختلف فيها, بمنطوق الكتاب او مفهومه او كنهه , اوباحدانواع الدلالات الاخرى ليدل بما لايقبل الشك على امور: اولـهـا: ارشـاد الـمسلمين عمليا الى امكان استنباط الاحكام الشرعية اوالكثير منها من كتاب اللّه , وذلك بالتامل , والتفكير, والاستنتاج , والعقلية الفقهية السليمة , وهذا برهنة منهما على مايدعيانه من عدم الضرورة الملجئة الى اختراع مقاييس جديدة , وتقعيد قواعد مستحدثة , واطلاق عنان الاجتهاد بالراي , اذمن الممكن الواقع معرفة الاحكام من خلال ايات الكتاب والاستدلال بها.
وثـانـيـها: وقوع الاختلاف الفاحش بين الصحابة ومروياتهم , بل بين مرويات الصحابي الواحد في الـواقعة الواحدة , بالاضافة الى المسموعات الناقصة التي تلقوها عبر واسطة او اكثر دون السماع الـمـباشر, مع ملاحظة عدم تنبه جميع الرواة لوجه الحكم المروي , منع الحكام للتحديث والتدوين وخوف الصحابة ... هذا كله مجتمعا جعل الاحتجاج بالسنة امرا متعسرا قليل الجدوى ,ضعيف الاقناع - اللهم الا ما تطابق النقل فيه , وهو نزر قليل - مما يجدرمعه باللبيب ان يعمد الى الاحتجاج بالقران الذي لم يجرؤ احدعلى ردالاستدلال به .
وثـالثها: هو الزام اتباع خط الاجتهاد بما الزموا به انفسهم , من كفاية كتاب اللّه (حسبنا كتاب اللّه ) فـي حل المعضلات , مما يظهر التهافت البين بين هذه الكلية التي اطلقوها وبين اخفاقهم على الصعيد العلمي والعملي في تطبيقها واستنتاج بعض مفرداتها, بعكس الملتزمين بخط التعبد الذي يرى ضرورة اشفاع الكتاب بالسنة لبيان الاحكام , مع امتلاكهم القدرة الفائقة على استخراج الاحكام واستنباطها من ايات الذكر الحكيم .
وعـلـى كـل حـال .. فالفقه الاسلامي قد تاثر بلا ريب باجتهادات الخليفة ,وانعكس اختلاف وجهات نظره على الاحكام , لانه جد في لزوم تطبيق ماافتى به وجعله بمنزلة السنة التي اكد الرسول عليها, فـقـد تـاثـر الـبـعـض من الصحابة بهذه الرؤية والزموا انفسهم بالسير على نهج الشيخين , وبذلك تـرى الاخـتـلاف يـاخـذ مـجاله في التشريع الاسلامي ويؤثر في الاحكام الشرعية المتداولة بين المذاهب الاسلامية , فمثلا: ابـو حنيفة وصاحباه وابن حنبل وزفر وابن ابي ليلى قالوا بحرمان الاخوين الشقيقين لما حكم عمر في الواقعة الاولى .
اما مالك والشافعي فانهما يشركان الشقيقين مع الاخوين لام في الثلث لماقضى عمر في الواقعة الثانية .
والـعـجيب انهم يرون صحة الرايين لصدورهما عن الخليفة , وهورجل غير معصوم , وهذا ما يقره الجميع .
نـعم , انهم في استدلالاتهم لم يكتفوا براي عمر وحده فراحوا يعضدونه بقرائن اخرى ترجح احد القولين وازاء حالة كهذه يحق للمرء ان يتساءل عن حكم اللّه :في اي هذين الرايين يجده ؟ اتراه يطابق الراي الاول للخليفة ام يوافق الثاني ؟ فـاذا كـان يطابق الحكم الاول , فكيف يحرم الشقيقين مع العلم بان الارث حق مالي , وعندها تظل ذمة عمر مشغولة , به لافتائه بحرمانهما منه ؟ وان قيل لم تتعلق , فكيف منعهما في الواقعة الثانية وحرم الاخرين منه ؟ ونـظرا للتاكيد الشديد على اتباع سيرة الشيخين امست سنة رسول اللّه منسية او كالمنسية في مثل هـذه القضايا, ولم يعد يعرفها الا اهلها. وهذا اللون من الاجتهاد المنفلت من النص قد بدا يتخذ طريقه الـى حـيـاة الـمـسلمين .وصار فقه الشيخين هو الحاكم , والروايات الداعية لمنع كتابة الحديث هي الراجحة في الميدان , في تلك الحقبة من تاريخ الاسلام .
متابعة الخليفة في تعليل المنع اخـذ مـحبو الخليفة يتناقلون - باوسع نطاق - تعاليل عمر في منع التدوين ,فصارت تعاليله تتحد مع تـعـالـيـل الاخرين الناهين من الصحابة ,وفي هذا ما يشير بوضوح الى حقيقة سياسية لا تخفى على البصير تومى ءالى كون الخليفة وراءها لـقـد دعا عمر بن الخطاب الى ترك تدوين السنة الشريفة خوفا من اختلاطها بالقران , او ان الناس سـياخذون بالحديث ويتركون القران . ونفس التعليل -او التعاليل - تراها ترد في حديث ابي هريرة , وفي المحكي عن ابن مسعود وابي سعيد الخدري وابي موسى الاشعري : روى عـبـدالـرحـمن بن زيد بن اسلم عن ابيه , عن عطاء بن يسار, عن ابي هريرة قال : خرج علينا رسول اللّه ونحن نكتب الاحاديث , فقال : ما هذا الذي تكتبوه ؟ قلنا: احاديث سمعناها منك .
فقال : اكتابا غير كتاب اللّه تريدون ؟ فقال ابو هريرة : انتحدث عنك يا رسول اللّه ؟ فقال : نعم , تحدثوا عني ولا حرج , فمن كذب علي متعمدا فليتبوامقعده من النار ((450)) .
وعـن ابـراهـيـم التيمي , قال : بلغ ابن مسعود ان عندنا كتابا يعجبون به ,فلم يزل معهم حتى اتوه به , فـمـحـاه , ثـم قـال : انـمـا هـلـك اهـل الـكتاب قبلكم انهم اقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب اللّه ((451)) .
وفي نقل اخر عنه : اقبلوا على كتب علمائهم واساقفتهم , تركوا التوراة والانجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والاحكام ((452)) .
وعن ابي نضرة انه قال : قيل لابي سعيد الخدري : لو اكتتبنا الحديث فقال : لا نكتبكم , خذوا عنا كما اخذنا عن نبينا (ص ) ((453)) .
وروى عـنـه ايـضـا: قـلت لابي سعيد الخدري : الا نكتب ما نسمع منك ؟قال :اتريدون ان تجعلوها مصاحف ؟ ((454)) . وقال ايضا:قلت لابي سعيد الخدري : انك تحدثنا عن رسول اللّه حديثا عجيبا, وانا نخاف ان نزيد فيه او ننقص .