إحیاء علوم الدین

أبوحامد محمد بن محمد غزالی الطوسی

جلد 14 -صفحه : 210/ 160
نمايش فراداده

و سعادتها، و تنعمها بلقاء الله تعالى.فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط، و لنيتنعم بلقاء الله إلا من مات محبا للهتعالى، عارفا بالله، و لن يحبه إلا منعرفه، و لن يأنس بربه إلا من طال ذكره له،فالأنس يحصل بدوام الذكر، و المعرفة تحصلبدوام الفكر، و المحبة تتبع المعرفةبالضرورة، و لم يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا و لنيتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنهشهواتها، حتى يصير مائلا إلى الخير مريداله نافرا عن الشر مبغضا له. و إنما يميل إلىالخيرات و الطاعات إذا علم أن سعادته فيالآخرة منوطة بها، كما يميل العاقل إلىالقصد و الحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة، فإنما يقتضيالميل و المواظبة عليه، فإن المواظبة علىمقتضى صفات القلب و إرادتها بالعمل تجرىمجرى الغذاء و القوت لتلك الصفة، حتىتترشح الصفة و تقوى بسببها، فالمائل إلىطلب العلم أو طلب الرئاسة لا يكون ميله فيالابتداء إلا ضعيفا، فإن اتبع مقتضى الميلو اشتغل بالعلم و تربية الرئاسة و الأعمالالمطلوبة لذلك، تأكد ميله و رسخ. و عسرعليه النزوع. و إن خالف مقتضى ميله ضعفميله و انكسر، و ربما زال و انمحق. بل الذيينظر إلى وجه حسن مثلا فيميل إليه طبعهميلا ضعيفا، لو تبعه و عمل بمقتضاه فدوامعلى النظر و المجالسة، و المخالفة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عناختياره، فلا يقدر على النزوع عنه. و لوفطم نفسه ابتداء، و خالف مقتضى ميله، لكانذلك كقطع القوت و الغذاء عن صفة الميل، ويكون ذلك زبرا و دفعا في وجهه، حتى يضعف وينكسر بسببه، و ينقمع و ينمحى و هكذا جميعالصفات. و الخيرات. و الطاعات كلها هي التيتراد بها الآخرة، و الشرور كلها هي التيتراد بها الدنيا لا الآخرة، و ميل النفسإلى الخيرات الأخروية و انصرافها عنالدنيوية هو الذي يفرغها للذكر و الفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمالالطاعة و ترك المعاصي بالجوارح، لأن بينالجوارح و بين القلب علاقة، حتى أنه يتأثركل واحد منهما بالآخرة، فترى العضو إذاأصابته جراحة تألم بها القلب، و ترى القلبإذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته، أوبهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء، وارتعدت الفرائض، و تغير اللون. إلا أنالقلب هو الأصل المتبوع، فكأنه الأمير والراعي، و الجوارح كالخدم‏