تاریخ ابن خلدون

عبدالرحمان بن محمد ابن خلدون

جلد 1 -صفحه : 839/ 593
نمايش فراداده

الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه (1)

إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم أنّالإنسان هو مدنيّ الطبع، يذكرونه في إثباتالنّبوّات و غيرها. و النسبة فيه إلىالمدينة، و هي عندهم كناية عن الاجتماعالبشريّ. و معنى هذا القول، أنّه لا تمكّنحياة المنفرد من البشر، و لا يتمّ وجودهإلّا مع أبناء جنسه. و ذلك لما هو عليه منالعجز عن استكمال وجوده و حياته، فهومحتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدابطبعه. و تلك المعاونة لا بدّ فيها منالمفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة و ما بعدها.و ربّما تفضي المعاملة عند اتّحاد الأعراضإلى المنازعة و المشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، و الصداقة و العداوة. و يؤول إلىالحرب و السّلم بين الأمم و القبائل. و ليسذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهمل منالحيوانات، بل للبشر بما جعل الله فيهم منانتظام الأفعال و ترتيبها بالفكر، كماتقدّم. جعل منتظما فيهم، و يسرّهم لإيقاعهعلى وجوه سياسيّة و قوانين حكميّة، ينكبونفيها عن المفاسد إلى المصالح، و عن الحسنإلى القبيح، بعد أن يميّزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عنتجربة صحيحة، و عوائد معروفة بينهم:فيفارقون الهمل من الحيوان، و تظهر عليهمنتيجة الفكر في انتظام الأفعال و بعدها عنالمفاسد.

هذه المعاني الّتي يحصل بها ذلك لا تبعدعن الحسّ كلّ البعد و لا يتعمّق فيهاالناظر، بل كلّها تدرك بالتجربة و بهايستفاد، لأنّها معان جزئيّة تتعلّقبالمحسوسات و صدقها و كذبها، يظهر قريبافي الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بهامن ذلك. و يستفيد كلّ واحد من البشر القدرالّذي يسّر له منها مقتنصا له بالتّجربةبين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتّىيتعيّن له ما يجب‏

(1) نقل هذا الفصل أيضا عن الطبعةالباريسية.