لاقى العرض الأول لمسرحية الكركدن على مسرح أوديون - تياتر بتاريخ 23 كانون الثاني من عام 1966 نجاحاً عظيماً. لقد رأى يونسكو حلماً من أحلام طفولته يتحقق: بعد عرض مسرحية البؤساء على الأوديون: كان المشهد ينتهي بدهشة جان فالجان: أنا رجل بائس، ومنذ ذلك اليوم بدا لي الأوديون المسرح الحقيقي الوحيد، المسرح الذي أودّ أن تقدم مسرحياتي عليه(1).
خلال عشر سنوات قطع يونسكو طريق النجاح دون أن يحصر نفسه في قالب معين بحجة الوفاء للنفس أو للجمهور، ومن مسرحية إلى أخرى كان يغيّر نظرته ويعدّل طرائقه.
ابتهج أصدقاؤه لنجاحه لكنهم قلقوا عليه: ألم ينكر نفسه أثناء انتقاله من المسارح التجريبية إلى المسارح الرسمية؟ ألم يغرق تمرّده العنيف أخيراً في توافه نزعة أنسية(2) مبتذلة مهترئة؟ كان البعض يعتقد ذلك وكانت مدائحهم تأخذ طابع التعازي: لن أستسلم أبداً، صرخ بطل مسرحية الكركدن في وجه مجادلات النزعة التوفيقية. فيما يتعلّق بالمؤلف فالاستسلام حقيقة واقعة للأسف[..] لنتفق إذن. لقد كان موقفاً صحيحاً ومطلوباً أن تكرّس باريس ومعها أوربا كلها الشاعر الحقيقي الذي كتب المغنية الصلعاء، لكن إنساناً ورعاً مندفعاً من عصر الدياميس له الحق في أن يحزن لأن يونسكو بعد أن اكتشف تفاهة الابتذال سقط وهو يتابع طريقه في ابتذال التفاهة، وفي الرمزية الوعظية التي كان يلعنها(1) كيف حدث أن أوائل المخلصين راحوا يتنكرون له ويتهمون الرجل العظيم بالانتهازية؟(2).
كان يونسكو يحاسب نفسه، فسيطرت على مؤلفاته أزمة عنيفة. لقد عاد إلى الاسكتشات والمسرحيات القصيرة ذات الفصل الواحد التي تعالج فكرة واحدة، وتستخدم أسلوباً واحداً وتتحاشى المسائل التي تتعلّق بالوجود: مشهد رباعي (1959) تعلّمْ المشي (1960) هذيان ثنائي (1962) الثغرة (1962)، البيضة المسلوقة، فيما بعد.
في الوقت نفسه كان يعمّق أفكاره النظرية، ويوضّح تصوّره لماهية المسرح، ويحدّد أسلوبه المسرحي من خلال محاضرات ومقالات شاملة متنوعة: تجربة المسرح (1958) مقال عن الطليعة (1959) المؤلف ومشاكله (1960)، جمعها مع شهادات أخرى، ومقدّمات، ورسائل، ومقابلات، في كتاب ملاحظات وملاحظات مضادة.
هذه الدراسات والتحليلات قادت يونسكو إلى الاعتراف بأن المسرح موجود في أعماقه وبأنه يكتب لكي يفهم الحياة والموت وبأن سبره لحالات القلق أوصله إلى الخوف والبحث عن مكان آخر. استمر إبداعه مع مسرحيات الماشي في الهواء (1962)، الملك يموت (1962) العطش والجوع (1964).
أما وقد غدا كلاسيكياً، يصفق له الجمهور الذي أوجده بنفسه، فقد غزا الكوميدي فرانسيز بمسرحيته الأخيرة، التي توّجتها جائزة موناكو (1969)، وربما لم يعد هناك فاصل كبير بين مسرحية الكركدن المعروضة على مسرح الأوديون والأسود المعروضة على مسرح الانستيتو؟(1).
في محاوراته مع كلود بونغوا (1966) يحلل يونسكو من جديد أفكار مسرحه وآفاق هذا المسرح في مواجهة الأدب. اختصر يونسكو مذكراته في مجلدين، - يوميات في فتات (1967)، حاضر ماض ماض حاضر (1969) يحددان لقرائه ملامح صورة، وذكريات هواجس وأوهام؛ أما كتابه اكتشافات (1969) فإنه يرسم مرة أخرى دروب الإبداع كما كتب جزءاً ثالثاً من يومياته.
أية وجهة ستتخذها كتاباته؟ تشير مسرحياته الأخيرة إلى اهتمام مُلحّ بمسائل انطولوجية، ويوحي كتابه يوميات في فتات بشكل لا معقول باحتمالات الانقطاع عن الكتابة: قلت لنفسي منذ مدة ليست قصيرة إن علي أن أبدأ بكتابة كتابي الحقيقي. في الواقع، ليس المسرح مجال إبداعي الحقيقي.(2) كتب حكايات للأطفال، وفي كتابه حاضر ماض ماض حاضر اعتراف بحزن يعود إلى أيام المراهقة كأنه نصل سكين في العنق: لن أنسى أبداً، لا شر هناك ولا خير، لم يكونوا (والده وعائلة والده) أخياراً ولا أشراراً، كانوا أغبياء. لقد أخطأوا كثيراً حتى أفسدوا حياتي كلها رغم ما يُحكى عن النجاح. لقد وصلت أنا أيضاً، إلى نهاية النجاح. على كل حال، بالنجاح أو دونه، كل أشكال الحياة فاسدة(3).
رغم ذلك، عندما سئل عن مسرحية جديدة كان ينبغي أن تحمل اسم الطاعون ردّ يونسكو موضحاً: منذ زمن وأنا أكتبالطاعون التي لن يكون اسمها الطاعون بل انتصار الموت. لن يكون أبطال المسرحية الأشخاص أنفسهم، وسيكون الحدث مختلفاً، ولن تجري الأحداث في الزمان والمكان إياهما، أما ما تبقى فلن يطرأ عليه أي تعديل(1).
الطبيعة هي الخطر، البراكين الثائرة
العواصف، الأعاصير، الهاويات،
الموت، إنها شرط الوجود الذي
لا يمكن قبوله، إنها الجحيم تقريباً.
(يوميات في فتات)