كنت جميلاً عندما كنت صغيراً في العاشرة أو الثانية عشرة من عمري، كنت أعرف ذلك وكان الناس يقولونه لي.. عندما كنت أرتدي ثيابي الجديدة لأذهب إلى صلاة الأحد، كنت أدرك أن الناس كلهم ينظرون إليّ وأنا أجتاز البلدة [..] في سن الثالثة عشرة بدأت أتغير فجأة. وفي الرابعة عشرة لم تعد بشرتي طرية صافية، وفقدت عيناي بريقهما؛ تضخم أنفي، وازدادت سماكة شفتي، لقد أصبحت بشعاً، كالآخرين(2). إن ما يصدم محاوري يونسكو، هذه الأيام، هي حيوية ذلك الوجه النيّر أو المكفهر حسب المشاعر المتناقضة، وتلك الثنية الساخرة على الشفتين، والحاجبات العاليان، والنظرة الصافية المندهشة من مشهد هذا العالم التافه. يتحدث نيكولا باتاي عن لقائه الأول مع يونسكو فيقول: تقتضي الأصول أن أنقل الانطباع الذي تركه لديّ. حسناً، لكي أساير المألوف أقول إنه بدا لي مثل السيد بيكويك(3). لقد حمل عبر حياته نوعاً من البساطة المقصودة، وقد مثل بصدق شخصية يذكرها جان كوت في مهرجان سبوليت عام 1959: الثلاثي يونسكو: أوجين، وزوجته، وابنته ماري - فرانس التي بلغت الثامنة عشرة، هم مسرح يونسكو بشكل مطلق، رائع، عظيم. الزوجة عملية، منهمكة، مدبِّرة. ماري - فرانس مثقفة، حالمة، متافيزيكية، حساسة، وكانت تنظر إلى أبيها بإعجاب. أما أوجين فكان يسلّي الناس حوله ويسلّي نفسه من خلال التغيير الدائم لمخططاته. يريد أن يسافر غداً إلى أورفيتو وبنشيو، لكنه يريد أن يسافر إلى سويسرا وإيرلندا، يريد أن يكون خلال يومين في بولونيا والمكسيك وفلسطين. لا يريد أن يكون غداً في المكسيك، وبعد غد في أورفيتو. ما يكاد يطلب السباغيتي حتى يستدعي الخادم ليستبدلها بتورتينللي، لكن ماري - فرانس طلبت جانبون فينادي أوجين الخادم ليحضر له شريحة أيضاً. إنه غير واع، يلعب بلا وعيه بوعي تام، مكتفياً بطريقة طفولية، ومقتنعاً أن مسرح يونسكو هو المسرح الوحيد في العالم.. وربما مسرح شكسبير أيضاً - هذا من قبيل التعاطف معي - إنه أكثر من يسخر من غطرسته الطفولية: أوجين، إنه الأكثر يونسكية من بين جميع الشخصيات التي خلقها يونسكو(1). هذه البراءة الزائفة وسيلة لحماية نفسه، وسيلة لكي لا يستهلكه دوره، تشهد على ذلك الحكاية الممتعة التي رواها رونيه دو أبالديا عن إقامة يونسكو في سريزي(2). أراد يونسكو أن يشارك في إحدى المناقشات فأمضى ليلة بيضاء في إعداد مداخلته: عندما وصلنا إلى المكتبة، المكان المخصص لأولئك السادة، وجلسنا نتلاطف بانتظار مداخلته، التي لا يمكن إلاّ أن تكون رائعة، ظهر يونسكو مثل يتيم ضخم، كبر سريعاً، يبحث عن عقل وعن أبوة مشكوك فيها. لمحتُ قطرات من العرق، متجمدة، حائرة في أي اتجاه تسيل، وقد أسرتها تجاعيد وجهه. أية حفاوة لم نحطه بها؟ لقد كنّا من كل قلوبنا مع هذا المؤلف النكرة، الذي يكدّس بعناد، كل مساء، الكراسي على مسرح لانكري، أمام مئات من المقاعد الخالية. أعطاه الرئيس الكلام في الحال فخيّم على المكان صمت ثقيل لا يتخلله سوى احتكاك صنانير مدام هورغون التي تحيّك الصوف وقد استسلمت لعادة بورغونيه قديمة. تغيّرت ملامح يونسكو شيئاً فشيئاً حتى صار من الصعب التعرّف عليه. فتّش جيوبه، أخرج محفظته، ومنديله، وربطة عنق، وقف، فحص مقعده، جلس، رفع بنطاله، ولم يجد بعد أوراقه [..]. خلال حوالي عشر دقائق، تملكه وسواس الأوراق، التي وجدها أخيراً، وحاول ترتيبها. استغرق ذلك عدة قرون. توصّل أخيراً إلى نتيجة غامضة، ففتح فمه، وبصوت ضعيف لا يُسمع على بعد ثلاثة أمتار، صوت من درجة الصفر: - ما أريد أن أقوله لكم هو أنه ليس لدي ما أقوله لكم على الإطلاق.. طلبنا منه أن يُعيد عدة مرات.. توقفت مدام هورغون عن حياكتها وقالت بصوت كالرعد: - هذا، هذا عجيب! عادة، كل من يأتي إلى هذا المكان لديه شيء ما يقوله، أو ليس لديه شيء يقوله، فإذا لم يكن لديه شيء يقوله فهو ليس هنا. هذا، هذا عجيب؛ هذا مبتكّر! أما جاك مادول الذي لم يسمح له كرم نفسه بأن يتنازل عن أي شيء يتعلّق بالثقافة، فقد هرع لنجدة ذلك المعذّب: - إن صديقنا يونسكو يطرح هنا مسألة هامة جداً، سأدعوها، لو سمحتم، مسألة ما يقال وما لا يقال [..]. احتدمت المناقشات، واختلطت، وازدادت غنى[..]، وبينما كانت تزداد حرارة العقول، وتبلغ درجة السمو، كان يونسكو ينام في مقعده، وقد جمّده ملاك النوم. لم يكن البحر يبعد عن ذلك المكان أكثر من ثلاثين كيلومتراً(1). غير أن ذلك الوجه المرهق، وذلك العرق البارد، وذلك القلق الكبير تكتسب معنى آخر عندما نقرأ تحت السطر الأخير من مسرحية اميديه: سريزي لاسال، 1953. هناك إذن كتب يونسكو أول مسرحية من ثلاثة فصول. لعبة الأقنعة تسمح بعدم الذوبان في الدور الاجتماعي وتيسّر للمرء البقاء دائماً غريباً إلى حد ما: المملّ في المجتمع هو أن الشخص يذوب في دوره، أو بشكل آخر، فإن الشخص مدعوّ للتطابق تماماً مع دوره [..] الأمر المزعج الذي يُفقد المرء إنسانيته، أن ينام مساعد في الجيش في زيه العسكري(1). لقد رفض يونسكو أن يرتدي زيّاً محدداً.. كاتب طليعي، لم يقبل أن تُلصق عليه بطاقة من هذا النوع أو ذاك؛ لكنه يمكن أن يصبح، حسب الحاجة، هذا أو ذاك أن يكون هنا وهناك . لم تشغفني الكوميديا الإنسانية ما فيه الكفاية، فأنا لست بكياني كله من هذا العالم(2). ارتداء القناع طريقة أيضاً لاستعادة الثقة بالنفس، لتهدئة المخاوف، لطرد الشياطين، لكتم بعض النداءات العنيفة النابعة من الأعماق: أعماقي هي الجحيم، إنني أعرف الآن ما هو الجحيم(3).