في الفترة التي كتب فيها يونسكو مسرحية الدرس كان يكتب أيضاً مسرحية جاك أو الامتثال. كان ينتقل من مسرحية إلى أخرى في اليوم الواحد تدفعه الرغبة في اكتشاف المسرح مستخدماً أساليب تتصف بالجرأة والعفوية. يمثّل الديكور غرفة رديئة الأثاث: مقعد مائل كرسي عتيق، أريكة مهترئة، حذاء قديم على الأرض، أغراض لا اسم لها، جاك متهالك على المقعد، قبعته على رأسه، صامت، منزعج. حوله شخصيات حزينة ذابلة - والد جاك، والدة جاك، جدّ جاك، جدّة جاك.. أخته جاكلين - يرددون لحن السخط على ذلك المتمرد، العاق، الذي تناسى كل التضحيات وخيّب كل الآمال. - والدة جاك: [..] أنا، يا ولدي، أول من ضربك على قفاك، وليس والدك الموجود هنا مع أنه كان قادراً على ذلك أفضل مني فهو الأقوى، لا، كنتُ أنا من فعل ذلك لأنني أحببتك كثيراً. أنا أيضاً من كان يحرمك من الحلوى، وكنت أضمك إلى صدري وأعتني بك، وأروِّضك، وأدرّبك على التطوّر، وأعلّمك الرفض، ولثغ الراء. أنا من كان يجلب لك أشياء لذيذة. درّبتك على ارتقاء الأدراج عندما توجد الأدراج، وكيف تفرك ركبتك بالقرّاص عندما تستدعي الحالة وخزك بالأبرة. كنت لك أكثر من أم، وصديقة حقيقية، وزوج، وبحّار، وكاتمة أسرار، وأوزة. لم أتراجع أمام أية عقبة أو أي متراس، لألبّي رغباتك الطفولية كلها. آه، أيها الابن العاق ما عدت تذكر عندما كنت أضعك على ركبتيّ لأنزع لك أسنانك الصغيرة اللطيفة؛ وأقصّ لك ظفر إبهام قدمك وأجعلك تخور مثل عجل صغير محبوب. رفض جاك الامتثال لأن هذا التأنيب لم يؤثر فيه. سيطر الرعب على العائلة من جرّاء هذا العناد فانسلّ أفرادها على رؤوس أصابعهم. بذلت جاكلين محاولة أخيرة، بعيداً عن الآذان المنصتة، والنظرات الفضولية - لكن كان أمام نظرات التاريخ، هذا صحيح - وأخبرت أخاها أنه دقيق التوقيت. سيطر الخوف على جاك من هذا الاكتشاف فراح يتجوّل في الغرفة، ثم تداعى على المقعد، وغرق في تأملات عميقة، وبعد صراع عنيف قرر الامتثال وأعلن استسلامه: حسناً، حسناً، نعم، أنا أشتهي البطاطا مع شحم الخنزير!. تعود العائلة، جميع أفرادها مبتهجون، يحتفلون بالابن التائب. تبالغ الأم في ملاطفته، ويقبل الأب أن يسامحه، ويدندن الجدّ بأغنية اعتاد تردادها السكارى، وراحت جاكلين، مثل رئيس الجوقة في المسرح اليوناني القديم، تشرح مزايا الاتفاق، بينما كان جاك يتعرّض للاهانات، ويترنم على جميع الأنغام: اشتهي البطاطا مع شحم الخنزير.. أحبها.. أشتهيها... لم يعد هناك وقت يضيّعونه، جاك جاهز، مستعدّ؛ ويجب تزويجه، يصفّق الأب بيديه: لتدخلْ الخطيبة. تدخل عائلة روبير: الأم روبير، والأب روبير، سعيدان راضيان، ثم تدخل روبرتا في ثياب الزفاف، تغطي الطرحة وجهها، خجولة. يتفحص والدا جاك الخطيبة، يلمسانها، يجسّانها، يشتمانها، وتعلن جاكلين: المستقبل لنا، ثم يتمّ تعداد مزايا روبرتا بالتفصيل لكن جاك يقاطعهم، وعندما رُفعت الطرحة التي كانت تخفي وجه روبرتا ذا الأنفين، يعترض جاك ويطالب بخطيبة لها ثلاث أنوف: لا أرضى بأقل من ثلاثة أنوف. يأخذ الأب روبير الخطيبة ذات الأنفين ثم يعود ومعه روبرتا بثلاثة أنوف، رغم ذلك استمر جاك في خلق الصعوبات وراح يناقش ويؤكد أن الخطيبة ليست بشعة بما يكفي، ثم تراجع عن خضوعه وامتثاله. ذهول وذعر، راح كل منهم يبتعد عن المرتدّ وهو يتمتم تعابير الاحتقار، أو بكاء الألم. روبرتا أيضاً تحاول الهرب لكن إشارة من والدها جمّدتها. إنها منذ الآن الزوجة المفترضة وحُكم عليها بالبقاء. جلست روبرتا أمام جاك، متواضعة، صامتة؛ ثم حاولت شيئاً فشيئاً أن تثير اهتمامه، وتغويه. راحت تصف نفسها وتروي قصتها: إنها الفرح والحزن، السلام والحداد، الحياة والموت، راحت تعدد مزاياها المتناقضة: ليس هناك امرأتان مثلي في هذا العالم أنا طائشة، تافهة، أنا عميقة لست جادة ولا هازلة أعرف نفسي في أعمال الحقول كما أعرف أيضاً أعمالاً أخرى.. راحت تروي أيضاً أحلامها: خنزير الهند في مياه البانيو. على جسده تنمو زوائد كالفطر تتحوّل بدورها إلى خنازير هندية صغيرة، غباء الطحّان الذي كان يظن أنه أغرق القطط الصغيرة، وأحضر بدلاً منها مهاراً صغيرة، وألقى في المستنقع طفله الغالي: جن الطحان، قتل زوجته، حطّم كل شيء، أشعل النار، ثم شنق نفسه. لقد روى جاك قصته الشخصية بعد أن شعر بالأمان، أما روبرتا فقد ذكرت المتناقضات: الخيول التي غرقت في المستنقعات؟ حصان مدينة الرمال، بينما كانت تروي حكايتها أصبح جاك فحل الصحراء، وإمام الشهوة: ينطلق مسرعاً على الأراضي المحرقة، في هواء جاف، وغبار أحمر، يدور حول المدينة التي تلتهمها النيران، يدور حول روبرتا، يصهل، يرتجف، يشبّ، لقد أصبح مشعلاً يفيض بالحياة، إنه يستنفذ قواه، ثم راح صهيله يضعف في الصحراء. آنذاك صارت روبرتا ماء، ماء من نبع أو من بركة راكدة، ثم أحاطت جاك بذراعيها: - تعال.. لا تخشَ شيئاً، .. أنا رطبة.. لديّ عقد من طين، ونهداي يذوبان، وحوضي غضّ، وفي ثغري نبع ماء إنني أغوص وأغرق. اسمي الحقيقي أليزا، في أحشائي مستنقعات وبُرك راكدة.. عندي بيت من فخّار.. ينتهي هذا المشهد من الغواية بلعبة تعتمد على حزّورة المقطع الصوتي: شا: - روبرتا: ماذا يوجد على رأسك؟ - جاك: احزري! إنه نوع من القطط، أضعه على رأسي منذ الفجر - روبرتا: هل هو قصر؟ - جاك: إنني أبقيه طوال النهار على رأسي، أثناء الطعام، وفي الصالونات، لا أرفعه أبداً، إنه لا يفيدني في إلقاء التحية. - روبرتا: هل هو جمل؟ - جاك: إنه يضرب بقوائمه لكنه يعرف كيف يشتغل في الأرض - روبرتا: إنه المحراث. - جاك: إنه يبكي أحياناً. - روبرتا: هل هو الحزن؟.. ثم تستمر اللعبة: سمك الأنهار، الضجيج، الزبون الدائم، الشاليه، زورق الإنقاذ، المداعبة..(1) روبرتا! أمه، يا قطيّ! - جاك: يا قطتي، يا سيدة قصري.. يحضن جاك روبرتا ويقبّلها على أنوفها الثلاثة بينما تحيط العائلتان الزوجين بدائرة تفتقد التهذيب والاحتشام. يشتد الظلام، ثم يُسمع مواء، وأنين، ونحيب، ثم تختفي الأشباح. يسود الليل، ثم يليه نور خفيف من جديد. نرى روبرتا جالسة القرفصاء، يكسوها ثوبها، تحرّك رأسها برفق، وتجمع الأصابع التسعة في كفّها كما لو أنها من الزواحف.