تصوير الزهد في الحياة والتعبير عن كيفية التخلّي عنها: هاتان الفكرتان الواردتان في مسرحية الملك يموت تطرحان جميع التساؤلات عن مغزى الحياة. وعن الوضع الإنساني إجمالاً، وفي محاولة للإجابة على تلك التساؤلات كتب يونسكو مسرحية العطش والجوع عام 1964. عُرضت المسرحية لأول مرّة في دوسلدورف في الأول من شباط 1965 من إخراج ك. هـ. ستروكس، أمّا في فرنسا فقد عُرضت على مسرح الكوميدي فرانسيز في 28 شباط 1966 من إخراج جان ماري سيّرو، وقام بالأدوار الأساسية فيها: روبير هيرش (جان) كلود وينتر (ماري مادلين) ميشيل ايتستيغرّي (الأخ تاراباس). قال المؤلف للناقد ف. شاتيّون: سُئلت إن كان تقديم المسرحية على مسرح الكوميدي فرانسيز يشكل منعطفاً في مؤلفاتي ونشاطي. فيما يخصّني ليس هناك ثمّة منعطف، المسألة فقط مسألة توسيع وتكبير، فمن المعروف أن صالة التياتر فرانسيه أكبر باثنتي عشرة مرة من صالة لا هوشيت. إن كان هناك من منعطف فإنه يتعلّق بالكوميدي فرانسيز التي اختارت نصاً ومخرجين لم تطالبهم بتغيير أسلوبهم. رغم هذا التصريح فإن مسرحية العطش والجوع تشكل تطوراً في أسلوب يونسكو مثلما تشكّل منعطفاً بالنسبة للدار رفيعة الشأن. لاتنقسم المسرحية إلى فصول بل إلى حلقات ثلاث ثلاث أحلام منفصلة: الهروب الموعد القدّاس الأسود في المنزل المريح. مارتا، التي نراها في المهد عند بداية المسرحية، تظهر عند نهايتها وقد بلغت السادسة عشرة، لكن هذه الإشارة خادعة فالمسرحية تتحدد خارج حدود الزمن، وتجري أحداثها في ديمومة من عالم الأحلام. عند رفع الستارة، نرى جان وماري- مادلين وقد عادا إلى شقتهما القديمة، شقة كما نرى في الكوابيس، معتمة، باردة، جدرانها مغطاة بالزواحف والعفن غارقة حتى نصفها في الماء والوحل”. يفكر جان بالهرب أمّا ماري مادلين فسعيدة لأنها تجد هنا الماضي كله: الأثاث العتيق، ورق الجدران الباهت، الجيران القدامى، الأصدقاء القدامى، العواطف الثابتة، ألبوم صور الناس منذ ألف عام، ذكريات من جميع الأزمنة. هذا الماضي الذي يتجذّر الحاضر فيه، السعادة في متناول اليد، المهد الذي تغفو مارتا فيه، ذلك يكفيها، ولا تحلم أحلاماً أخرى: سنضع قفلاً جديداً للباب، قفلاً له مفتاح ضخم، يغلق جيداً، وندعمه بمرتاج، فنكون في مأمن من اللصوص والمصائب. يتغذّى جان من الأمل، إنه ظمآن لما سينبجس عن قريب، جائع لما يفتقده: كل التوقعات، كل الأضرار. فجأة تدخل العمة اديلاييد وتجلس على الأريكة العتيقة، سيدة ضخمة، متشرّدة، تتشح بخمار طويل، تضع قبة ريش، تتزين بمجوهرات مزيفة. راحت تتكلم، تخرّف، تهذي. إنها مجنونة أو على الأصح كانت مجنونة إذ أنها توفيت منذ زمن بعيد لكن ذكراها وطيفها يؤججان الندم وعذاب الضمير. أشعلت ماري مادلين النار في المدفأة. تظهر في ألسنة اللهب امرأة تحترق وتستغيث وهي تمدّ ذراعيها. ذكرى أخرى وندم آخر. لم يجد جان في نفسه الشجاعة ليلقي بنفسه في النار وينقذ المرأة؛ وأمام الشعور بالذنب والذكريات المؤلمة تنصح ماري -مادلين جان بالقبول والخضوع والاستقرار في الشقة. في مونولوجين متقاطعين -لأن الحوار بينهما ينقطع تدريجياً- تتحدث ماري-مادلين عن السعادة التي تعيشها في الزمن الحاضر وعن حلاوة العادات ثم تردد الحب- اليقين: أحبك، تحبني، نحبها، نحب بعضنا حباً جماً. ستكون معنا دائماً؛ حتى لو سافرت إلى الطرف الآخر من العالم، حتى لو تصور ت أنك وحيد، فأنا معك، وسأكون معك... يتحدث جان عن التمرد والهرب، عن الجري إلى طرف العالم، يتحدث عن تسلّق القمم وعن البلاد التي لا يموت فيها الناس: لا أريد أن أكون مثلهم، لن أغوص مثل الآخرين، لن استسلم. مصيري ليس مصيرهم؛ ووجودي في مكان غير هذا المكان. تنتهي هذه الحلقة بلعبة الاستخفاء، يختفي جان ثم يظهر من جديد وراء الأثاث وفي الكواليس. تشعر ماري- مادلين بالقلق ثم بالذعر فتترنم ببعض التعاويذ والسحر: من قلبك، من قلبك، لن تستطيع انتزاع الحب، لن تستطيع انتزاع الحب من قلبك، الحب من قلبك لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه، لن تستطيع انتزاعه.... يعود جان على أطراف أصابعه وينتزع من قلبه وردة الحب، وردة النسرين، ويمسح قطرات الدم التي تحولت إلى لآليء، ويبتعد ويخفت صوته ويتلاشى. تركع ماري-مادلين قرب مهد طفلتها. آنذاك يتلاشى الجدار وتظهر حديقة رائعة ينتصب فيها سُلّم فضي يضيع طرفه الأعلى في عنان السماء. يتمّ الموعد على شرفة معلّقة في الفراغ. لقد سار جان قروناً عبر بلاد رطبة، في مستنقعات، تحت المطر.. لقد جاء من قبل إلى هذه الشرفة وعرف فيها الفرح والسعادة؛ وها هو يعود من جديد محمولاً على جناح الفرح نفسه. تهجم عليه كل ذكريات السعادة فيشرح ذلك إلى حارسيّ المتحف الموجودين معه. سيبدأ كل شيء عمّا قريب، سيبدأ كل شيء من جديد. إنه ينتظر المرأة التي واعدته، المرأة التي ستعود إليه بعد أن قطعت، هي الأخرى، الروابط التي تشدّها إلى الماضي. هو لا يعرف اسمها وليس واثقاً من مكان الموعد ومن زمانه؛ لكنه يعرف أن عليه أن يلتقي معها لأنها المسكن واللقاء. ستعلّمه الفرح ومتعة الحياة، ستعيد له الزمن الضائع وسوف يتابعان الطريق معاً. تمرّ الساعات.. الوقت ظهراً، الساعة الواحدة، لقد انقضت فترة ما بعد الظهر وها هو الغسق يغطي صفاء السماء. يتذكر جان الألم القديم ويشعر أن جراحه تنزف من جديد: اوه، أيها الحارسان، كنت أسكن مرتاحاً في اللامريح. اسمعا ماحدث لي. أردت الهروب من الشيخوخة، أردت الهروب من التورّط، وها أنذا أبحث عن الحياة، أبحث عن الفرح. لقد سعيت إلى تحقيق أحلامي فما وجدت سوى العذاب. كنت مخيّراً بين راحة البال وبين الهوى، فواحسرتاه، لقد اخترت الهوى. لم أكن مدركاً لما أفعل، مع ذلك كنت آمناً، متحصناً في حزني وحنيني وخوفي وندمي وقلقي ومسؤوليتي. الخوف من الموت كان درعي الأقوى. لقد كنت في أمان. كان ذلك كله بمثابة جدران تحيط بي؛ وها أنذا مُعرّض للجراح. انهارت الجدران وها أنذا في نار الحياة الحامية؛ في يأس الضيق. أردت الحياة فانقضّت عليّ الحياة بكل قوتها. بعد أن عانى من العطش والجوع يعود إلى بحثه من جديد. ينطلق على الطرقات لغزو العالم لكنه يجد الطرقات ولا يجد العالم، يمضي إلى اللقاء باحثاً عن النهارات والأماسي والليالي، عن أنوار وأَلَقَ تاجه. تجري أحداث الحلقة الثالثة القدّاس الأسود في النزل المريح في قاعة الطعام في نزل أو دير؛ قصر قديم هو أيضاً مدرسة أو مستشفى، لكن القضبان الكبيرة عند المدخل تذكّر بالسجن، جدرانه سميكة كجدران القبر. وصل جان تعباً، قد شاخ. طلب السماح له أن يستريح، استقبله راهب يرتدي جبّة لكنه لا يحمل أية علامة دينية، إنه الأخ تارا باس المكلّف بأمور الزوار، يرافقه ثلاثة رهبان آخرين يثيرون الشكوك، يقرؤون سلوكهم وأجوبتهم على وجه راهب آخر، أخرس جامد، كبير بشكل غير طبيعي، إنه الأخ الرئيس. غسل الرهبان قدمي جان ووضعوا المناشف الدافئة على وجهه وقدّموا له خمراً وخبزاً ليروي ظمأه ويسكت جوعه. شكرهم جان لكنه تساءل في نفسه وهو قلق قليلاً إن كان سيستطيع تسديد الثمن. قال الأخ تارا باس: لا تشغل فكرك في ذلك، إنه لن يكلّف كثيراً [...] ومع ذلك يسعدنا لو تخصص لنا قليلاً من وقتك الآن. لقد دفع جان ثمن ذلك حياته إلى الأبد. طلب الرهبان بعد ئذ من جان أن يروي مغامراته، لم ترضِ حكايته طموحات الإخوة الذين راحوا يسجّلون بعض الملاحظات. وجد الأخ عالم النفس أجوبة جان متوسطة المستوى بل دون المتوسط . قرأ الأخ تارا باس علامات عدم الرضى على وجه الأخ الأعظم فغيّر اختباراته وتحوّل المشهد إلى تحقيق نفسي بوليسي وراح جان الخائف المضطرب يفتش في ضباب ذاكرته عن صور منسيّة دون أن يدري أي ثمن يعطيها أولئك الذين يستمعون إليه ويحاكمونه. انتهى الاستجواب. شكر تاراباس جان وقال له: لقد سجّل الأخوة ملاحظات عمّا قلت وأعطوك علامة على ذلك ثم اقترح عليه مشهداً تربوياً، إنه تمثيلية التربية بواسطة إعادة التربية. إنه مشهد إزالة التسمم الفكري والتخلّص من الاستلاب.تخيّل أن بيننا رجلين قاسيا من بعض الصدمات التربوية، أو من عملية بناء تشويهية بصورة تدريجية، إذا جاز لي استخدام هذا التعبير. أمّا وقد وصلا إلى المكان الذي هما فيه، فعليهما أن يسافرا من جديد لكن في الاتجاه المعاكس. يجب على كلّ منهما أن يتعلّم المعنى المضاد، هذا، بكل وضوح، عملية غسل دماغ. يتمّ إحضار مهرجين في قفصين هما تريب المؤمن بالله وبريختول الكافر الملحد. يقوم تاراباس بدور الأخ المربّي.. ينقسم الرهبان إلى قسمين؛ رهبان في مسوح سوداء ورهبان في مسوح حمراء. إنهم جمهوران يتظاهران كلّ حسب الإيديولوجية التي يؤمن بها. يتمّ إحضار قدْر من الحساء وبعد يومين يتمّ التخلّص من الاستلاب ويتبادل المهرجان عقائدهما: تريب يكفر وبريختول يردد الصلاة جاثياً. مشهد لا يغتفر للارتداد عن العقيدة. الحقائق تزول، الايديولوجيات تنهزم أمام الجوع، وكل قيمة تتلاشى. يضيف الأخوة الباقون ساديتهم الشخصية إلى قسوة تاراباس: يمدّون المغارف ويعيدونها، يتظاهرون بالصمم، يلحّون على إنكار فكرة محدّدة. أمام هذه المهزلة البغيضة، ينتقل جان، وهو الشاهد المشارك فيها، من الضحك إلى الخوف. ينتهي المشهد فيقترح تاراباس على جان أن يعرض عليه البقية إذ أن ما رآه هو الحلقة الأولى من مسلسل من ثلاثين حلقة: ... في الحلقة التالية، كما أعلنتْ الشخصية التي قمتُ بتمثيل دورها، سيتمّ علاج الرجلين من التسمم بالحرية، كما يتمّ فضح، واعذرني لاستخدام هذه الكلمة المبتذلة، نعم يتم فضح فكرة إطلاق سراح المساجين، بل يتم فضح الحرية نفسها... أراد جان أن يتابع سفره. عطشه وجوعه لم يرتويا. مازال يحنّ إلى انبهار لا يوصف، يحلم بمتابعة بحثه لكن الأخ تاراباس يذكّره أن الناس يتبادلون الواجبات، إنهم أخوة يتبادلون الخدمات، يجب على جان -وقد أصبح الأخ جان- أن يفي دينه:يجب أن تفعل شيئاً فلا أحد مُعفى من الخدمة الاجتماعية. لا تقلق، سنقرّر بدلاً عنك. مادام الجميع يأكلون ويشربون، ومادمنا لانفعل شيئاً سوى ذلك، من السهل أن نجد لك عملاً، نرجوك أن تقوم بتقديم الطعام إلى هؤلاء الأخوة الجالسين حول المائدة... كم من الوقت سيستغرق تقديم الطعام؟ سألهم جان كم ثانية، كم دقيقة، كم ساعة...؟ لمعرفة ذلك راح الأخ المحاسب يكتب أرقاماً على سبّورة سوداء. راح يرصف الأرقام التي تحدّد زمناً جهنمياً. بدأ جان بإحضار أطباق الطعام والأباريق، بإيقاع متسارع، إلى طاولة الإخوة. آنذاك، وفي الناحية الأخرى من قضبان بوابة النزل، ماري-مادلين وقد عادت شابة، ومارتا الصبيّة الحلوة، تظهران في جنات عدن، حيث يلمع السلّم الفضي وقد أنقذهما الحب.