الكتابة بالتحديد، هي وصف الأشياء وذكر طموحات العالم الداخلي. إنها الابتعاد عن التفكير المنطقي واماطة اللئام عن نظام جديد للفوضى. هناك لحظات يفكر المرء فيها بطريقة منسجمة، منفتحة، لحظات أمتلك فيها مجموعات من الصور الحرّة الطليقة، لحظات أشعر فيها بمحرضّات متنوعة للكتابة قد تنسجم وقد تتعارض. عندما أمرّ في مثل هذه الحالة القريبة من الفوضى، غالباً ما تكون هي تحرير اللحظة التي يجب أن أكتب فيها مسرحية: يجب أن تأخذ الفوضى شكلاً، وأن يخرج منها عالم واضح منسجم متماسك. على عكس ذلك، عندما أكتب دراسات، وأبحاثاً، ومقالات يسيطر عليّ انطباع أنني سيّد نفسي أكثر، وأكثر يقيناً مما أعتقد معرفته. أعرف، ولا حاجة للبحث عن مزيد من المعرفة. آنذاك أعجزُ عن كتابة مسرحية(1). الكتابة هي تحرير للمكبوت في النفس(2) و الأدب ظاهرة عُصاب(3)، لكن يونسكو يقصد، باستخدام هذه الصيغة، التعبير عن الوساوس والقلق الوجودي، والضيق الميتافيزيقي. العمل الأدبي يمثل ذلك كله، بحث عن المغزى؛ إنه يُعطي معنى للوجود(3). الكتابة أخيراً، هي محبة الكلمات. يجب أن تحب كيفية رواية الحكاية أكثر من محبتك لما ترويه(4) وهي إعطاء الفوضى الداخلية نظام علم النحو؛ هي نقل التحليلات من خلال مدلول الكلمات والتغلب على مقاومة اللغة من أجل صياغة ما لا يقال إنها معركة مع الملاك الذي ندعوه الدعوة إلى الكتابة (موهبة). يحب يونسكو أن يصوّر نفسه موزّعاً بين إغراءات الكسل ونداءات الخيال. من الواضح حقاً صعوبة كتابة مسرحية. ذلك يتطلب جهداً عقلياً هائلاً: يجب على الكاتب أن يقف، وهذا عمل مرهق.. يجب أن يجلس في اللحظة التي اعتاد فيها تماماً على البقاء واقفاً، يجب أن يتناول قلمه الثقيل جداً، ويجب أن يفتش أخيراً عن أوراق غير موجودة. ويجب أن يجلس أمام طاولة غالباً ما تتداعى تحت وطأة المرفقين... من السهل، نسبياً، أن تؤلف مسرحية دون أن تكتبها، من السهل تخيلها، أن تحلم بها، وأنت ممدد على ديوان بين النوم والصحو..(5). النداء الباطني عند يونسكو، هو في الحقيقة، نداء قاهر ملحاح. ها أنذا أبدأ الكتابة، الكتابة، الكتابة. طوال حياتي وأنا أكتب. لم أعرف أبداً شيئاً آخر(1). الحاجة إلى الكتابة مثل التنفس تلبّي أكثر الطموحات تعقيداً. الدوافع المتناقضة تماماً، أو التي تكمل بعضها تدفعني للكتابة: كل شيء يحملني على الكتابة: الكبرياء، إرادة القوة، الكره، الرغبة في خلاص نفسي، الحب، القلق، الحنين، الفوضى، الثقة، فقدان الثقة، اليقين فيما أؤمن به، عدم اليقين، الرغبة العنيفة في أن أكون مثقفاً، والرغبة في التثقيف، في التسلية، الخشوع.(2) لكن الكتابة تعني أن يسأل الكاتب الناس وأن يسأل نفسه، إنها صياغة هذه الأسئلة. رغم ذلك فإن مسرحية العطش والجوع هي مسرحية الأجوبة؛ ففي خاتمة البحث والتفتيش بقي هناك شعور كئيب حاد لا طائل تحته وحنين أشد إيلاماً لماذا ارهقت نفسي إذن إذا كان أدبي الشخصي [..] لم يساعدني على التقدم خطوة واحدة على دروب المعرفة والإشراق والصفاء؟(3). من هنا يولد رعب الكاتب: سابقاً، سابقاً، حدث شيء ما من هذا القبيل كنت أجلس بفرح أمام طاولتي لأكتب [..] أما اليوم فإن فكرة الكتاب تملؤني رعباً. اليوم، عندما أبدأ الكتابة، يستيقظ في داخلي ذلك الشعور الذي صار أكثر حدة، شعور لا يطاق، شعور بالمأساة، والخطر، والقلق الشامل، فأحاول الهرب والتسلية والنسيان(4) كيف الانقطاع عن الكتابة؟ كيف الاستمرار؟ في قلق هذه المهنة النارية انطلق من يونسكو هذا النداء: إنه الموت الذي أريده؟ لماذا؟ لأنه وحده يستطيع أن يغلق، وهو وحده من سيغلق فمي(5).