الدراما حدث، لكن يونسكو أراد أن يخلق حركة دون اللجوء إلى العقدة. لقد رفض التغيرات المفاجئة المألوفة في المسرحية الهزلية الخفيفة، أو الميلودراما، كما رفض الأحداث المباغتة، العودة غير المتوقعة للزوج المخدوع، والخيانات والانفصالات والاعترافات وصليب أمي. المسرحيات المعقدّة ماهي سوى تراكيب، لمواقف جامدة علىدرجات متفاوتة من الحذق والبراعة. إنها مسرحيات مبتذلة تتحدّث عن الجائز والممكن، لكن ليس لها أية ضرورة وجودية. لكي يعبّر يونسكو عن رفضه، أحال العقدة إلى سخرية: في المغنية الصلعاء، تكلّم السيد والسيدة مارتان كبّة عن علامات عرفان الجميل، وإن حكاية جاك وروبرتا هي مسرحية هزلية، أو هي الوجه الآخر لقصة عشاق فيرونا وغالباً ما نصادف التهكم اللاذع من العقدة البوليسية: الخادمة في مسرحية المغنية الصلعاء هي في الحقيقة شرلوك هولمز، كما أن مسرحيات ضحايا الواجب واميديه، وقاتل بلا أجر تبدأ بلغز أو تحقيق بوليسي؛ ويعتقد شوبير أن كل المسرحيات منذ الإغريق حتى أيامنا لم تكن أبداً سوى مسرحيات بوليسية. لكي ينقذ يونسكو المتفرجَ من مصيدة العقدة فإنّه يحطّم وهم التخيّل: تقاطع جاكلين كلام والدتها المؤثر ودموعها المنسكبة:لا تفقدي وعيك في الحال!، انتظري نهاية المشهد، وتقول مرغريت للملك:ستموت في نهاية المشهد، كما أن بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء يخبرنا أن المحاسبة الشاملة في تعدد مجالاتها هي مسألة تخصّ مسؤول الاكسسوار أو مدير الآلات. لكي يؤكد يونسكو هذه المسافات الفاصلة بين التمثيل والحقيقة فإنّه يطبّق مبدأ المسرح داخل المسرح: مادلين والشرطي يجلسان في مقعدين مريحين ليراقبا شوبير؛ كما أن تريب وبريختول مهرّجان يؤديان مشهداً أمام جان وينقسم الرهبان إلى جمهورين متنافسين. تدمّر هذه الأساليب فكرة مشابهة الواقع وتفرض على المتفرجين مشاركة من نوع آخر. أهمية المسرحية ليست أبداً في رسوخ شكل الحكاية. تحت ستار التطورات الساخرة الطارئة على عقدة رخوة مصطنعة تطور الحركة الدرامية صراعاً انطولوجياً حدّد يونسكو ملامحه العامة: فكرة بسيطة وتطور بسيط أيضاً ثم السقوط. في البدء هناك صورة تجسّد موقفاً: كراسي تتكدّس في غرفة، جثة تكبر، قاتل مجهول، ملك يموت... هذا الموقف الذي يصعب الدفاع عنه ولا مفرّ منه مع ذلك، يترجم قلق الحياة والإنزعاج البدئي. إنه يعبّر عن مخاوف وأوهام بصرية ويعطي للمسرحية مغزاها. فيما يخص مسرحية الكراسي. كنت أرى بكل بساطة صورة غرفة فارغة تُملأ بالكراسي التي لا يجلس عليها أحد... والغاية الوحيدة من القصة هي أن تدعم الصورة الأولية. في مسرحية اميديه، الأمر الأساسي بالنسبة لي، الأمر الذي يشرح المسرحية، هو الجثة وكل ماتبقّى حكاية تدور حولها..... هذه الصورة المستمدة من الحلم في أغلب الأحيان تحمل في ذاتها مبدأ تطورها، والصراع الذي تنطوي عليه يخلق الدراما. الحركة هي انتشار قوى تتجابه. التطور حركة آلية حتمية تتصاعد باستمرار: تصل الكراسي إلى المنصّة بسرعة متزايدة، شوبير يغوص في ذاته، والجثة لا تتوقف عن التضخّم، بيرانجيه يرفض الاستسلام وجان يحمل الأباريق وطناجر الحساء.... ليس هناك من حلّ للعقدة. الموقف لامخرج له لأنّ الصراعات الوجودية لا حلّ لها؛ والغرائز المتعارضة المتصادمة هي نسيج الحياة: الرغبة والموت، غريزة التجمّع وغريزة التوحّد، الحب والموت، البراءة والذنب... سقوط، الحركة الدرامية هو في الحقيقة إسقاط خارج الزمان، هو نقل موقف فريد إلى صورة نموذجية. الديمومة تتجمّد، والتمثيل يتحوّل إلى تكرار في ضحايا الواجب، المستقبل في البيض، الكركدن، العطش والجوع... لكي يبيّن يونسكو مدلول عودة مواقف حقيقية في عالم عبثي يتبنّى التركيب الدائري: في نهاية المغنية الصلعاء يستعيد آل مارتان دور آل سميث، وتقرع طالبة جديدة جرس باب بيت المدرّس... هذه البنية الديناميكية تطرح من جديد مسألة الزمانية والسببية. في المسرح الواقعي والبوليسي الذي يرجع إليه شوبير التراث كله. تنبع الحركة المسرحية من تتالي الأحداث حسب ترتيبها الزمني، وفي هذا التتالي تنصبّ التغيرات المفاجئة على العقدة وينحصر التفسير في الاستدلال الاستنتاجي. على عكس ذلك، فإن مدلول الصورة المسرحية، عند يونسكو يفترض تنظيماً مكانياً للواقع. لم يعد هناك من قبل، أو بعد بل حاضر يتضخّم بلا حدود. كل شيء يُعرض على أنّه واقع راهن، اميديه ومادلين هما في ذات الوقت زوجان عجوزان وزوجان شابان، شوبير طفل وبالغ... إضافة إلى ذلك فالمنطق، العقلاني أو الانفعالي، لم يعد وسيلة للتفسير: الضرورة تختلط مع عدم التحديد المطلق. وهكذا يصبح البناء الدرامي سؤالاً عن بنية الواقع.