بينما كانت عروض المغنية الصلعاء تغرق في اللامبالاة كان يونسكو يكتب مسرحية الدرس التي عُرضت للمرة الأولى على مسرح الجيب في 20 شباط 1951. لم تلاقِ أي نجاح، لكن عند إعادة عرضها عام 1956 مع المغنية الصلعاء، التصقت بلوحة الإعلانات ولم تفارقها. إذا لم يكن في المغنية الصلعاء موضوع ولا مغنية فإن الدرس يبرر العنوان: هناك مدرّس وطالبة ودرس خصوصي، لكنه ليس درساً خصوصياً تماماً - رغم ما يقول جاك لومارشان - إنه إعادة أمينة لدرس يعطيه الماريشال فوش في الكلية الحربية(1) إذ أن هناك درس ودرس. تمثّل منصة المسرح غرفة عمل المدرّس. أدخلت الخادمةُ طالبة جديدة: مراهقة، أو مكتملة الأنوثة (ربما كانت في الرابعة عشرة أو الثامنة عشرة) محتشمة، مهذبة، لكننا نشعر أنها تضجّ بالحيوية ظريفة، واثقة من نفسها، غبيّة قليلاً. جاء المدرّس، في العقد الخامس من عمره، ظهره محنيّ قليلاً، خجول، ذو حركات بليدة، ثيابه رثّة، يتحدث بصوت خافت، إنه مرتبك أمام التلميذة، يعتذر، يتلعثم، يفتش عن موضوع للحديث، يخوض في توافه الكلام، يتورّط، يتشبثّ بالجُمل الجاهزة. تؤدي ردود الأفعال المهنية دورها وتيسّر له إمكانية التصرّف: - أنت تعرف باريس إذن؟ - كلا يا آنسة، لكن لو سمحت، هل يمكنك أن تقولي لي، باريس، هي عاصمة.. يا آنسة؟ - باريس.. إنها عاصمة فرنسا؟ - طبعاً يا آنسة، أحسنت، جيد جداً، عظيم، تهانيّ، أنتِ تعرفين جغرافية وطنك حق المعرفة. في مثل هذا الموقف يكون الطقس الملاذ الأمثل: - ... الطقس جميل هذا اليوم.. أو ليس جميلاً تماماً.. أوه، إنه جميل على كل حال، في النهاية، ليس الطقس رديئاً، هذا هو المهم.. إيه، إيه.. المطر لا يهطل ولا يسقط الثلج. - لو حدث ذلك لكان أمراً مدهشاً لأننا في فصل الصيف. - أعتذر يا آنسة، كنت سأخبرك بذلك.. لكنك ستتعلمين كيف تتوقعين كل شيء. يمكن أن نتوقع كل شيء: تفاهة عبثية فيما يتعلّق بالمطر والطقس الجميل، لكن إذا طُبّقت هذه القاعدة على الحياة فإنها تمتليء بالتهديدات والأخطار. أثناء الحركة الدرامية تصبح التفاهات نوعاً من النبوءات. قالت التلميذة إنها تريد متابعة دراساتها العليا لأن ثقافة بسيطة عامة لا تكفي في عصرنا هذا. إنها تعرف من قبل أسماء الفصول - أو جلّها - وقد حصلت على الثانوية الفرع العلمي وعلى الثانوية الفرع الأدبي وتريد أن تتقدم، بعد ثلاثة أسابيع - إلى مسابقة الدكتوراه العامة. يجب إذن الانصراف إلى العمل دون إبطاء. في اللحظة التي يجلس فيها الأستاذ والتلميذة لبدء الدرس، تدخل الخادمة، تفتح أحد الأدراج، تتباطأ، ثم توجّه إلى المدرّس تحذيراً غامضاً. يبدأ الدرس بمادة الحساب. كان المدرّس في غاية الراحة وهو يؤدي دور المعلّم: تلاشى خجله، لم يعد يتلعثم، صار يستخدم مفردات ذكية، لكن التلميذة ردّت الكرّة إلى مرماه فراحت تمزح وتجيب على الأسئلة بطريقة أخاذّة، دون تردد: اثنان وواحد؟ - ثلاثة. ثلاثة وواحد؟ - أربعة ..[..] سبعة وواحد؟ - ثمانية. لقد ذُهل المدرس لكنه أثناء حماسه واندفاعه ارتكب أخطاء لغوية تدعو للدهشة. رائع، أنت رائعة، أنت لذيذة ساحرة، أهنئك بحرارة يا آنسة. بدأت المتاعب مع عملية الطرح: فلم تتمكن التلميذة من طرح ثلاثة من سبعة. بدّل المدرس الأرقام، وفتّش عن أمثلة، تناول قضباناً، وأعواد ثقاب، كتب على السبورة، عدّ على أصابعه، وراح ينظُّر فتحولت شروحاته لعملية الطرح إلى فلسفة عملية. - ليس الأمر كذلك، ليس الأمر كذلك أبداً. لديك ميل دائم للجمع، لكن يجب أن تتعلمي الطرح أيضاً. يجب أن لا نقتصر على الدمج فقط، يجب أن نفتت أيضاً، هذه هي الحياة، هذه هي الفلسفة، هذا هو العلم، هذا هو التطور، هذه هي الحضارة. توترت أعصابه وراح يصرخ، وهذه العدوانية الكلامية مرتبطة برغبة أكثر سريّة فضحتها الأمثلة الجديدة: لو كان لك أنفان، وجدعت لك واحداً.. كم أنف يبقى لك؟ [..] لك أذنان فإن صرمت واحدة، لو أكلت واحدة، كم أذناً يبقى لك؟ لم تعد التلميذة تعرف ما تفعل أو ما تقول، صارت تخطيء في كل شيء فأصابها الرعب والذهول. ارتبكت وراحت تتخبط كأنها وقعت في مصيدة. فقدت ظرفها وثقتها. بدأ الحزن يسيطر عليها من وطأة التوبيخ. صارت تتحدث بكلمات من مقطع واحد: نعم، يا أستاذ.. لا، يا أستاذ وبدأ الإرهاق يظهر عليها أكثر فأكثر. يجب أن تتخلّى عن مشروع الدكتوراه العامة وتكتفي بالدكتوراه الجزئية. ترك الأستاذ الحساب وانتقل إلى معالجة العناصر الأساسية في اللسانيات وفقه اللغة المقارن للغات الإسبانية الجديدة، عندها ظهرت الخادمة من جديد وسحبته من طرف كمّه: يا سيدي، أعط أي علم تريد إلا فقه اللغة، ففقه اللغة يؤدي دائماً إلى الأسوأ. لقد بلغتُ سن الرشد يا ماري أجاب الأستاذ إنه منتصب الآن، يتكلم وهو يقطع الغرفة، يدور حول التلميذة المتهالكة على كرسيها، في منتهى السلبية، كأنها منوّمة مغناطيسياً، ومشلولة، إنها تبذل، عبثاً، جهوداً لتسمع وتفهم، إنها تتألم. استرجع المدرّس الأصول التاريخية للغات الإسبانية الحديثة وأوضح أنها تتميز: بأوجه التشابه المذهلة التي تجعل من الصعوبة بمكان التمييز بين لغة وأخرى. كانت الحصّة عبارة عن سلسلة من المقاطع تزداد طولاً وسرعة، وهذياناً. صار صوت المدرّس قاسياً عنيفاً. لم يعد يسمع التلميذة التي تتأوه: أسناني تؤلمني وها هو يزجرها بفظاظة. لا أهمية لذلك؛ ولن نتوقف من أجل هذه التوافه، لنتابع... كانت تلك الفترات الطويلة من محاضرة المعلّم تتقطّع بكلام مختلف تماماً: تهكمات، وقاحات، مخاطبة سوقية بصيغة المفرد، وسواها مما يقطع طوفان ذلك الحديث: - اسكتي وإلا حطمت جمجمتك! [..] - .. بلا وقاحة؛ أيتها الصغيرة؛ أو انتبهي لنفسك. تابع المدرس شروحاته بلهجة غاضبة. انتقل إلى مسألة الترجمة العسيرة، ولكي يعطي مثالاً، تناول سكيناً ضخمة راح يلوّحها أمام عيني التلميذة. طلب منها أن تردد كلمة سكين في مختلف اللغات وهي تحدّق بتلك الأداة عن قرب شديد. ارتجفت التلميذة آخر ارتجافة تمرّد ثم استسلمت، على إيقاع متقطع، لاهث، رتيب، راحت تردد مع المدرس: سك..كين.. سك.. كين.. سك.. كين وأخيراً قالت وقد اعتصرها الألم والذهول: نعم، نعم.. السكين تقتل ثم عرضت صدرها لطعنة السكين. رجعت الخادمة وراحت توبّخ الأستاذ بلهجة أمٍ قاسية وتنتقد سلوكه وقد غدا من جديد خجولاً متلعثماً. صفعته بعنف عندما حاول أن يطعنها خلسة، ثم حصلت منه على وعد بأن لا يعود إلى ذلك أبداً وساعدته في نقل الجثة لوضعها في تابوت.. مع تسع وثلاثين تلميذة كان قد قتلهن من قبل. دقّ جرس الباب، ذهبت الخادمة لتفتح، إنها تلميذة جديدة جاءت لتأخذ درسها..