لهذا السبب فإن الوجه الحقيقي ليونسكو لا يوجد في تلك الصورة الزائفة، بل في ذلك البوح المقنّع أو العنيف الذي نجده في يومياته، أو في تلك الذكريات التي نعثر عليها في مسرحياته وقصصه القصيرة. ولم أستطع قبول هذه الحياة، أو قبول نفسي(4). مؤلفاته كلها تعبّر عن هذا الغموض الذي يلفّ تجربته الوجودية، وتعاقب صعوبة الوجود وصعوبة الفرح. مهما بعد يونسكو في العودة إلى ذكرياته، يجد الفوضى والاضطراب؛ يجد الإحساس أنه يعيش في عالم معادٍ أو لا مبالٍ، عالم من الطيور الجارحة: عندما كنت في الخامسة، كما أظن، كنت في دار للأطفال غير بعيدة عن باريس[..] أمضيت في هذه المؤسسة عدة أشهر، وبما أنني كنت بعيداً عن أمي، فقد كنت حزيناً جداً. لم أعتد أبداً الانفصال عن أمي ولا النوم في مهجع مشترك، ولا قاعة الطعام، ولا جود الآخرين العدواني المرفوض [..] في سن العشرين، عند تأدية الخدمة الالزامية، وجدت ذلك كله من جديد: المهاجع العارية المطروشة بالكلس، وساحة سجن فسيحة، ورائحة المطهرات المرعبة. كانت حالتي هنا أسوأ مما كانت عليه وأنا في الخامسة(1). هذا القلق مرتبط بشعور بالخيبة: إخفاق الرغبة، خيبة الأمل والأحلام، فالنجاح، والارتياح العارض، وذيوع الصيت، لم تؤد إلا إلى نسيان سريع، دون أن تردم الهاوية الداخلية، دون أن تحمل العزاء عن الفاجعة النابعة من إحساس بالضياع في هذا العالم المحكوم عليه بالموت(2). حالات الرضى التي بحثت عنها - وقد وجدتها - لملء حياة، وفراغ، وحنين، نجحت أحياناً في إخفاء ذلك القلق الوجودي. لقد سلّتني، لكنها غير قادرة على فعل ذلك مرة أخرى. لقد بدا لي دائماً أن الآلام والأحزان والفشل حقيقية أكثر من النجاحات والأفراح. حاولت دائماً أن أعيش لكنني مررت بجانب الحياة ولم ألتق بها، أعتقد أن هذا ما تشعر به غالبية الناس. لم أعرف كيف أنسى نفسي. لكي أنسى نفسي يجب أن أنسى ليس موتي فحسب، بل أن أنسى أن أحبابي يموتون وأنّ للعالم نهاية. فكرة نهاية العالم تقلقني وتغيظني. الحياة هي الشقاء(3). في قلب هذا القلق وجد يونسكو صورة واحدة، وجد وجه أمه الحزين، ووجد وحدته التعيسة أثناء الحرب، وخاصة مضاعفات تلك الجراح التي أُصيب بها في طفولته الأولى. نراه في يومياته يتردد في الحديث عن تلك الذكريات: لا أدري إن كان عليّ ذكر ذلك، ورغم ذلك فإن تلك الطفولة حددت نفسيته منذ بداية تفتح الوعي لديه: إذا كنت كما أنا ولست بشكل آخر، فهذا كله، أو جلّه، عائد إلى ذلك الحادث الأساسي. لا أدري لماذا، لكن ذلك الحادث حدّد موقفي من أهلي، كما أنه رسّخ الكراهية التي أكنّها للمجتمع. إنها ذكرى خلاف نشب بين والديه: من الصعب أن نعرف من هو الألعوبة في يد الآخر، الرجل أم المرأة، غالباً ما تكون الضحية الظاهرية أقوى من الجلاّد الظاهري؛ لكن الصعب أن يخلّص المرء نفسه في مثل تلك المواقف الحسّاسة. لقد ضعت فيها. كان عمره آنذاك أربعة أعوام. لقد شهد شجاراً بين والديه حاولت والدته الانتحار بعده إذ شربت قارورة صغيرة من صبغة اليود. اليوم، وبعد سنين، يبدو لي ذلك المشهد مضحكاً. من المحتمل أن والدتي لم تنو الانتحار حقاً. كانت تعرف أن والدي سيمنعها من تحقيق ذلك. انحفر المشهد في ذاكرتي ولم يستطع الوعي أن ينسيني الرعب الذي سبّبه لي آنذاك. لقد رسّخ هذا الخلاف العائلي إحساسي بالشقاء، وأكّد لي أننا لا نستطيع أن نكون سعداء. هناك أيضاً السعادة التي عرفها في لاشابيل أنتونيز، لكن هذا الفردوس ضاع إلى الأبد كم مرة، كم مرّة مُتُّ منذ ذلك الحين!(1). هناك أيضاً لحظات السعادة العظيمة، هناك التجربة المطلقة للفرح: كان يحصل لي سابقاً أن أشعر أنني امتلأت غبطة وحبوراً.. كان يخيّل لي في البداية أن كل فكرة، وكل حقيقة قد فرغت من محتواها. بعد هذا الفراغ، بعد هذه الدوخة، كان يخيّل لي أنني انتقلت إلى قلب الوجود الصافي، الوجود الذي لا يمكن التعبير عنه، كما لو أن الأشياء تحررت من كل تسمية تعسفية، تحررت من إطار لا يناسبها، إطار يحدّها ويخنقها: كان يتلاشى كل قهر وتختفي كل ضرورة اجتماعية ومنطقية للتحديد والتنظيم [..] هذا كله، كيف أستطيع التعبير عنه، هذه الحالات من الوعي كانت تولد في محيط من نور [..] كان إدراك الوجود والاندهاش يتطابقان. كنت أستيقظ فجأة، ومن أي نوم! كنت أستيقظ على نور يشتت الدلالات القديمة للأشياء وللزمن الذي كان وعيي يغفو فيه. لم تكن تلك الدهشة العظيمة التي تسيطر عليّ سوى عودة الوعي الذي كان لدي [..] هكذا إذن، فإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الحالة من الوعي تبدأ بتفريغ الأفكار من مضامينها فإن المرحلة الثانية، الأساسية كانت نوعاً من الامتلاء المتجمع فيما وراء التعاريف والتحديدات(1). لقد كشفت نشوة السعادة لدى يونسكو شذوذ الحياة الراهنة وأيقظت الإحساس بالروعة؛ لكن هذه الحالة نادرة. باختصار: لقد استمر ذلك زمناً طويلاً جداً، لقد استمر عدة ثوان ثم بهتت الألوان ورجعت السماء عادية: القبح، والابتذال وسّخا الحياة اليومية من جديد. أخيراً، لا شيء فظيع، وكل شيء فظيع، لا شيء هزلي، كل شيء مأساوي. لا شيء مأساوي، كل شيء هزلي. كل شيء حقيقي، غير حقيقي، مستحيل، معقول. لا معقول، كل شيء ثقيل، كل شيء خفيف(2).